لم أكن أتصور ان يخلوا مطبخ شقتي من السمن البلدي، وهو ما قدرت المحافظة عليه من ذكريات الريف، وايام الصبا، كانت تتوالى هدايا الريف من السمن والبن بشكل دوري.
بعد توصية من استشاري العمود الفقري كان على خالتي ان تتخلى عن أي اعمال تتسبب بتفاقم وضعها الصحي، باع والدي البقرة وبدأ عصر الزبادي.
تم تجفيف منابع السمن، وأصدقكم أنى لا أستسيغه الا من سمن بقرتنا في القرية، لم أستطع الصبر، في الشهر التالي ذهبت الى أحد محلات البهارات واشتريت قارورة سمن بلدي، كانت معبأة بالسمن الصناعي ومغطاه بالسمن البلدي من الاعلى، ما يعني اني اشتريتها بأربعة اضعاف قيمتها الحقيقية.
لم يعد لفتيات ريفنا علاقة بالحقول وكل ما يتصل بها من مهام، علف البقرة وحلبها والحطب والخبز على المافي، أصبحت تلك مهارات نادرة، ربما هناك ثقافة دخيلة تقضي على جمال واناقة الريف.
لو عاد الزمان بالشاعر راشد ثابت لما استطاع أن يكتب القصيدة التي غناها الفنان أيوب ” واحاملات الشريم”، لم تعد الفتيات الريفيات يسابقن الطيور، بل يسابقن الموضة ويغردن في تويتر ويجمعن “اللايكات” في فيس بوك.
قليلون من يمتلكون أبقارا تدر اللبن والسمن في منازلهم، حتى من يستطعن رعاية الابقار وكبى وخض الدبية واستخراج السمن، نساء جميلات ينقرضن مع الايام.
قيمة اجمالي ما تنتجه البقرة من اللبن 5 دولار تقريبا إذا قورن بلبن المصانع المعلب مع فارق القيمة الغذائية، وهو مبلغ ليس قليلا في الريف.
ما يجب ان نقوله اننا بحاجة لمبادرة من اجل إعادة الفتيات للحقول، أن تعمل الفتاة وتساعد اسرتها ليس تخلفا بل التخلف هو أن نزدري تراثنا وثقافتنا، ويلزم ان يعاود الناس امتلاك الابقار والاغنام، فبدراسة جدوى بسيطة تستطيع ان تدرك منافع هذه الحرف الصحية والمادية، ويقال في الحركة بركة وفي العمل راحة.
نحن في أمسّ الحاجة لدراسات زراعية تختار المنتجات الأقل تكلفة وذات العائد الاقتصادي الأفضل، ليعاود مزارعونا نشاطهم، حتى زراعة القات أصبحت تكاليفها أكثر من فائدتها في ريفنا على الأقل وهذا محفز لاقتلاعه واستبداله بزراعة منتجات ذات قيمة وغير ضارة.
مع تنهيدة وحسرة، أصبح ترفا ان تعود لقريتك، أحدهم يقول ” اللي بصرفها برسلها لهم مصاريف”. الحرب وتردي الوضع الاقتصادي يسرق منا بهاء حياتنا، يأخذ منا حق العودة لذكريات طفولتنا وشقاوتنا وحكايتنا، في المرة الأخيرة وجدت رسوماتي على الجدران والالواح، رأيت ما كتبت ورسمت في 6 اغسطس 2002، كان عمري وقتها 13 سنة تقريبا، كتبت ورسمت عن ” فلسطين المحتلة ” كقضية كانت حاضرة في وجداننا، وأصبحت اليوم تهمة.
في ريفنا بقعة ضوء، هناك مبادرات مجتمعية لشق الطرقات وبناء المدارس ورعاية المعلمين، بتمويل ذاتي بحت، وهذا يدعوا للتفاؤل، يجب ألا نبقى أسري للتبرير، لن تأخذ الحرب منا كل شيء، علينا أن نجتهد وفقا للمتاح الممكن، قيمنا وأعرافنا ومحبتنا ستبقى.