“توارثنا الفقر المدقع عن أسلافنا بسبب حصار الجغرافيا الصعبة لقرانا منذ قرون والتي جعلتنا مغيبين عن التغيرات الكثيرة والمستمرة في حياة المجتمعات على الجانب الآخر منها، ونشعر بأننا كما كان آباؤنا مجرد رهائن منسيين خلف الجبال الشاهقة التي تعزلنا عن التفاعل مع مجريات الحياة التي تضج خلفها”، هكذا تحدث المواطن أحمد سعيد من أبناء عزلة القبعة بمديرية وصاب العالي عند وصفه خطر وعورة الطرق الريفية على حياة أفراد مجتمعه القابع على إحدى أعلى جبال محافظة ذمار وسط اليمن.
يتذكر أحمد مقطع فيديو مؤثر انتشر بقوة من قريته “منقذ” عبر وسائل التواصل الاجتماعي بنهاية العام ٢٠٢٢ عن سائق سيارة رباعية الدفع تحمل 12 راكبا معظمهم على صندوقها المكشوف، (خاطروا بالتوجه للسوق الأسبوعي لمديريتهم).
كان السائق يحاول أن يعكس وجهة السيارة وهو على طريق وعرة وخلفه هاوية سحيقة نحو أسفل الوادي، وبينما هو على هذا الحال، تحدث بصوت مرتفع إلى مصور المقطع حول صعوبة مرور السيارات في تلك الطريق، وفجأة تحوّل حديثه إلى صراخُُ مختلط بصراخ الركاب والسيارة تهرول للخلف وتنقلب بمن عليها نحو أسفل الهاوية مجهزةً على حياة الجميع.
لم تكن تلك الحادثة سوى واحدة من سلسلة حوادث سابقة وتالية جعلت السكان يطلقون على ذلك الطريق “طريق الموت”، ولعل هذا يفسّر لماذا لا يوجد في تلك القرى كقرية “الحيد” سوى سيارة نقل واحدة فقط يستخدمها الجميع للانتقال للمدينة عند الاحتياجات شديدة الإلحاح والطارئية وخاصة المنقذة للحياة مقابل أجور مرتفعة تأخذ في الحسبان شدة المخاطر بما فيها احتمالات الموت.
ومن الجدير ذكره هنا أنه لا توجد إحصاءات مؤكدة عن ضحايا طرق الريف نظراً لعدم وجود أي جهة رسمية هناك بطبيعة الحال، لتبقى ذكريات كبار السن من يمكنها سرد كافة حوادث الطريق وأسماء ضحاياها.
الجغرافيا الوعرة
يتوزع سكان اليمن على نحو 140 ألف تركز مجتمعي أغلبها في الريف الوعر والنائي حيث تتركز أكثرها ضعفاً لدرجة يكاد ينعدم الوصول إليها بسبب شدة وعورة الطرق إليها.
ويشكل افتقار سكان الريف لشبكة الطرق تحديا كبيرا لتنمية المجتمعات هناك وتحسين ظروف الحياة. وحتى الوقت الحالي، لم تُعبّد إلا ٣٧٤٤ كم من الطرق الريفية وهذا لا يمثل سوى ٦.٤ في المائة من إجمالي شبكة الطرق و ٢١.٦ في المائة من إجمالي الطرق المُعبّدة بحسب دراسة نشرتها مبادرة إعادة تصور إقتصاد اليمن.
وفي هذه المناطق ذات الطبيعة الوعرة مثل المرتفعات الوسطى والشمالية للبلاد، يتحد انعدام الطرق الريفية إلى جانب الحرب والانهيار الاقتصادي وغياب خدمات الاتصالات في إطباق طوق الحصار على تلك المجتمعات، لتظل تدور في دائرة الضعف بلا توقف.
ومن صور معاناة سكانها أنهم يعجزون في بعض الأحيان عن إنقاذ حياة أبنائهم كما هو الحال في حالات الطوارئ الطبية وولادات النساء ويتفاقم هذا الوضع مع عدم قدرة منظمات الإغاثة والتنمية للوصول لإنشاء خدمات حياتية و أساسية كالمدارس وآبار الشرب وخدمات التطبيب وغيرها.
في السياق، تتعدد المناطق التي تحتضن طرقاً كهذه لتتركز أخطرها بمحافظات عمران وحجة والضالع وريمة وتعز وصعدة.
التنمية تلين قسوة الجبال
مما زاد الطين بله، أن الحرب الراهنة لعبت دورا كبيرا في تقليص جهود التنمية، رغم شحتها، في تطوير وتحسين الطرق الريفية، رغم أن هذه الطرق تندرج ضمن أهم عوامل زيادة الوفيات وتفاقم الفقر في الريف.
ومع ذلك، فلا تزال هناك مؤسسات وطنية معدودة تكافح قسوة الجبال عبر توسيع وتسوية الطريق الريفية القائمة ورصف مقاطعها الحرجة بالأحجار التي يتم قطعها من نفس الجبال بالمنطقة مع الأخذ في الاعتبار إنشاء مصارف جانبية كافية لتصريف مياه الأمطار الساقطة من الجبال عليها.
ومن هذه المؤسسات الباقية، الصندوق الاجتماعي للتنمية الذي توجه نحو منطقة القُبَع ليربط قراها الست ببعضها ثم بطريق سهله طولها ٥ كم أسفل الجبل ومنه غرباً إلى شبكة متفرعة من الطرق الترابية السهلة المؤدية إلى عدة أسواق وقرى ومدن صغيرة، ليستفيد منه نحو ٨٠٠٠ شخص أغلبهم نساء وأطفال.
وقد نفذ الصندوق العديد من مشاريع الطرق الريفية خلال فترة الحرب بما يصل طولها الإجمالي إلى نحو 1,300 كم.
“كانت الجهات التنموية ترفض طلبات مجتمعاتنا لبناء مدرسة نظراً لارتفاع كلفتها بسبب صعوبة الطريق”، يصف خالد محمد من قرية “الحيث” حالهم قبل مشروع الطريق الجديد وكيف مثّل نهاية لحوادث استنزاف أرواحهم.
يضيف متحدثاً لمنصة “ريف اليمن” عن مواصفات الطريق “اشتمل على مرافق تضمن استدامته وسلامة المسافرين مثل توسيعه وإنشاء كتف حماية من جهة المنحدر، واختيار أحجار ذات سطح خشن يضمن مقاومة انزلاق الإطارات، وجدران حماية للمركبات من جهة المنحدر في مناطق الالتفاف مع إنشاء جدران حجرية من جهة الجبل لمنع سقوط الأحجار المنزلقة على الطريق”.
ومن حصيلة مشاهداته في هذا المشروع التنموي، يشير خالد أنه حضر نقاشا مجتمعيا عرضيا من واقع معايشتهم لتفاصيل هذا المشروع الذي مكّن أفرادا من المجتمع في المشاركة في إدارته ومراقبته والعمل فيه مستنتجاً عددا من الدروس، كان أهمها إمكانية قيام المجتمعات الأفضل حالاُ بمبادرات لتحسين طرقهم وأن ذلك يتطلب فقط، الى جانب موازنة معقولة، تنظيم فريق موثوق لإدارة المبادرات وتعبئة المتطوعين للعمل.
ويتابع قائلا “تعلمنا من المشروع أنه ليس عالي التكلفة كما كنا نتوقع، فجانب تأمين أو تحييد أجور العمل، العنصر الأكثر كلفة، لم يعد ما يجب الإنفاق عليه سوى قيمة الوقود الخاص بآلات كسر الصخور من نفس الجبل وجلب الرمل فقط، فالطريق تم رصفها بالاحجار المتوفرة في نفس المنطقة وبدون أسمنت والذي ستبدل بالتراب الذي يكتسب مع الوقت نفس قوة الأسمنت في ربط الأحجار ببعضها”.
ومع الطريق، تغيرت حياتهم كما يقول خالد، حيث بدأ الشباب بشراء وإدخال الدراجات النارية إلى القرى بما يشبه الظاهرة، وهي تساعدهم في أعباء فرص عمل في أسواق الوديان أسفل الجبال.
وبدوره، عبّر سائق السيارة الرباعية الوحيدة عن سعادته بأن الطريق عمل على تخفيض كلفة إصلاح سيارته، وكذا كلفة انتقال الركاب الأمر الذي طمأن الناس على سلامتهم وشجع المزيد منهم على الانتقال للتطبيب وتأسيس علاقات عمل أو تجارة مع المجتمعات الجديدة الواقعة خارج “طريق الموت”.