الجِرْبة عند المزارع: مالٌ وعَمَّةٌ ومفخرة

علاقة اليمني بالأرض متجذرة بالاعتزاز والحب والتضحية

الجِرْبة عند المزارع: مالٌ وعَمَّةٌ ومفخرة

علاقة اليمني بالأرض متجذرة بالاعتزاز والحب والتضحية

تمثل الزراعة أهم ركائز الحضارة اليمنية القديمة والتي برع فيها اليمنيون واستغلوا المساحة الجغرافية أفضل استغلال، فزرعوا المرتفعات والهضاب والأودية ونجحوا في تحقيق الاكتفاء الذاتي من المحاصيل الزراعية بل وتصديرها للخارج.

وترجع الدراسات التاريخية أول ظهور للزراعة إلى الألف الرابعة قبل الميلاد، وقد ازدهر هذا النشاط حتى أطلق بعض علماء المسلمين على اليمن القديم اسم “اليمن الخضراء”.

وطوال تاريخه، كانت علاقة اليمني بالأرض متجذرة بالاعتزاز والحب والتضحية والتي تجعله مستعدا للدفاع عنها بالقوة والقانون، فهو على سبيل المثال يقاضي أحدهم سنينا إذا أخذ جزءا بسيطا من أرضه مثل ساقية حتى لو كانت قيمتها المادية أقل بكثير مما سيخسره في أروقة المحاكم.

الجِرْبة.. المكانة والتسمية

الأرض تعني لليمني حياته التي يكافح للحفاظ عليها ويبذل طاقته وجهده وعرقه للاهتمام بها وتنميتها، فتعطيه خيراتها وما تجود به حسب مواسمها الزراعية.

وبحكم هذه العلاقة، يسمّي اليمني أرضه الزراعية وخاصة (الجِرْبِةْ) كما يسمّي أبنائه، فيُطلق عليها الأسماء المميزة والمعبرة ويُقال في الثقافة الشعبية ما غني إلا مَن يملك كم مِن جِرْبِةْ، ويسمّيها بعضهم “المال”.

وبحسب المؤرخ مطهر الإرياني في كتابه “المعجم اليمني في اللغة والتراث”، فإن “الجربة عند أهل اليمن بقعة من الأرض عزيزة على النفوس، أثيرة في القلوب، يقيمها مالكها ويرعاها، ويعتمد عليها، ويحبها كما يحب الأهل والولد”.

ويعرّفها بأنها “البقعة الكبيرة الخصيبة المحددة من بقع الأراضي الزراعية المختلفة”، ولكنها لا تكون كذلك -بالنسبة له- إلا إذا توفرت فيها هذه الشروط، “فتكون أكبر مما يسمى (الرفد ) و (القسم) و (القطعة) و (الصــانـفـة) و(الرقبة) و (المَسْوع ) و (المفلح ) و (العدن) و (الرون) و (الكروة) و(الوَدن) و (القطين) ونحوها”.

وعلاوة على ذلك، لا بد أن “تكون خصيبة جيدة التربة تشرب من ماء إضافي غـيـر مـا يسقط على مساحـة أديمها من ماء المطر، فإما مما يفيض عليها من أراض فوقها ، أو من مهارق – ونسميها مراهق – خاصة بها، أو من رافد من روافد الوديان، أو من سيل الوادي إن كانت في واد كبير، وأحسنهـا مـا يدخلها السيل ويسقيها الغيل”، بحسب الإرياني.

ويضيف “بشرط سعة المساحة يخرج ما سبق ذكره من أسماء ضروب القطع الزراعية، حتى ولو كان بعض هذه القطع التي لا تبلغ الجربة مساحة، ذا تربة خصبة جيدة، وبشرط الخصب وجودة التربة تخرج قطع زراعية ذات مساحات كبيرة، ولكنها كما نسميها (مساهير ) وواحدتها (مسهار) أي ذات تربة ضعيفة ولا تشرب ، إلا مما يهطل عليها ذاتها من ماء المطر ، يطلق على المســهــار اسم الجربة ، وإن كبرت مساحته”.

ولهذا يُطلق “أصحـاب الجـرب عليها الأسماء الفخمة والمعبرة، وخير الجرب ما أطلق عليه اسم (ذي كذا) و (ذي كيت)، ويقولون عن المالك الكبير : فلان غني ما يملك إلا كمْ مِنْ ذِي ذِي”، كما يقول الإرياني مدللا على ذلك بأسماء  من منطقته بني سيف بمديرية القفر من قبيل “ذِي الْمَاجِلُ، ذي عَزَّة، وذي شَامَة”.

وهذه التسمية -وفقا له- “ظاهرة قديمة، جاءت في النقوش المسندية، فمن ذلك ما جاء في النقش الموسوم بـ (جام / 555) حيث عدد فـيـه صاحبه أسماء مواضع زراعية يملكها على وادي أذنة في مارب، فذكر منها: (ذي صوم) و (ذي رمــدن = رمــــدان) و (ذي أنويان = الأنواء) و (ذي مسقم)”.

من جهته، يشير الأكاديمي المصري د. مرسى الصباغ في دراسته “الثقافة الزراعية في الأمثال اليمنية”، إلى أنه لا يُطلق على الأرض أو المزرعة اسم جِرْبِهْ إلا إذا كانت “مربعة الشكل” وكبيرة وهو بهذا يتفق مع الإرياني في الحجم.

أما العالم والمؤرخ الهمداني فقد أورد اسم “جِرْبِهْ” في سياق تناوله وسائل الفلاحة عند اليمنيين وطرق الري، حيث ورد في هذا الموضع “فأما القرارة بالهجيرة فإنَّه يصرم بها متعجلاً بنيسان وآخر آذار، فتكون الجِربة.. “، لكنه في موضع آخر سمّاها “الودن”.

من جهته، يتحدث المزارع والمهتم بالتاريخ الزراعي، أحمد ضبيان عن تسمية “الجِرْب”، بأسماء أشخاص أو لقب الأسرة أو القبيلة فيقال مثلا في بلاد آل لسود بمديرية رغوان بمحافظة مأرب “أم الشضى وحوا  فصر حوا”.

ويُسمّى المسقى الكبير للجربة ب”الديه” والذي يسقي جميع الجِرْب ويتفرع منه مساقي أخرى تسمّى “الباهي”.

ويذكر ضبيان في حديثه الخاص “ريف اليمن” أمثلة على المسميات بأسماء الأشخاص في مديريتهم مثل “موضع محسن  وأبو دباه وفصور  آل محيي، فضلا عز بلاد آل مسعد وموضع صالح والقشع”.

وفي منطقة “الرجوا” قرب سد مأرب توجد تسميات مثل “قسمة آل عرفج وقسمة آل قايد وبلاد آل حزام وشضوه بكران وبلاد آل عبيدي وبلاد آل جزار.. ألخ”، بحسب ذات المصدر

المزارع اليمني وثقافة الأرض

ومن حب اليمني بأرضه وتعلقه بها، فقد أغدق عليها بالوصف والغزل وكرّس مكانتها وقيمتها في الشعر والأمثال الشعبية والتي تتردد على الألسن، ومن ذلك قول الحكيم ابن زايد  “جربة من المال تكفي مع ولد لا أصْلَحَ الله”، في إشارة للقناعة بما تيسر من معيشة.

ومن أشهر الأمثال الشائعة “عَمَّهْ وَلا جِرْبِهْ على الغيل” والغيل هو الماء الجاري، وقد علّق الإرياني على ذلك قائلا “والعمة : أم الزوجة وهي في اليمن ليست كالحماة في بعض الأعراف العربية، فهي في اليمن محبة لزوج ابنتها مؤثرة له، ومن له عمة كهذه، فكأنه ملك أنفس ما يُملك من المال، وهو جربة على غيـل جـار يرويها فتغل أوفر الثمار”.

وأورد في كتابه قصة “من طريف غـــزل المزارعين، وتعبيرهم عن الحب”، وهذه القصة لمزارع كان يعمل في حراثة أرضه، ولمّا أقبل وقت الظهيرة، جاءت زوجته بغدائه وأول ما رأها غنى مـتـغــزلاً ومرحباً بها: يا مرتي ويا خيار مالي*** وأي جِرْبِهْ تنبت الرجال.

وعلّق الإرياني وهو أديب وشاعر أيضا قائلا إن الرجل يرى أن “زوجته هي أحسن جربة لديه، فلا توجد جربة تحرث فتنبت رجالاً، وزوجته فحسب تفعل ذلك حين يأتيها حارثاً لها”.

ولكون “الجربة بقعة مميزة محددة فإنهم يقولون ـ مثلاً ـ في وثائق البيع والشراء : اشترى فلان بن فلان من فلان بن فلان الجربة المسماة (كذا) بنا راجياً وغيلاً ساقياً، بمبلغ كذا وكذا ويا لا فرانسياً حجراً. ويحدها من الشرق (كذا) ومن الغرب (كذا) ومن الشمال (كيت) ومن الجنوب (كيت).. إلخ»، كما أورده المصدر ذاته.

ومن الأمثال المنسوبة للحكيم ابن زايد قوله “ما ينفعك طول مسقاك .. إذا الليالي جديبة”، أي لا ينفعك أيها الزارع اتساع المكان الذي تنحدر منه المياه المتساقطة والتي سوف تسقي في النهاية أرضك إذا حالت الليالي دون المطر ولم يلمع فيها برق أو رعد.

ويورد المؤرخ الإرياني قصة رجل اختار إعدامه على أخذ جِرْبِتهْ دِية لأسرة الشخص الذي قتله، فيقول “حدثني من أثق به أن رجلاً ظل يزرع مما يزرع جربة له يحلها من نفسه محلاً خاصاً، وفي شيخوخته ظهر من ينازعه ملكيتها ورفع عليه قضية، وجن جنون الرجل فكمن لغريمه وقتله وحوكم وحكم عليه بالإعدام، وفي يوم التنفيذ حضر الحاكم في الموقف، وأعاد عرض الدية على أولياء الدم لعله يعتق نفساً، فقبلوا الدية بعد لأي، ولكنهم جعلوا الجربة هي الدية، فإذا بالمحكوم عليه يرفض ويصر قائلاً: أنا رجل عجوز إن لم أمت اليوم ففي الغد ، فليكن موتي اليوم وتبقى الجربة للعويلة» أي : الأولاد”.

ومن القصص الطريفة، التي ذكرها الإرياني ما قاله صاحب  جِرْبِةْ (ذي مقلدان = المقلد) في البخاري بجبل سمارة؛ وقد غرست قاتاً حيث غنى:

حَنِيْنِي وَشَوْقِي وكَمْ لِي أَنهد

              على بنت بيضا ومَدْكَا وَمَسْنَد

مع ربطتين قات مِنْ وَسْط مَقلد

شارك الموضوع عبر:
الكاتب

مواضيع مقترحة: