تخرج «نميم ثابت» (70 عاماً) في الصباح الباكر، وتحمل على رأسها كرتوناً بداخله القليل من الحناء والبهارات، وتطوف العديد من القرى بمنطقة الحجرية جنوب محافظة تعز، متخذة من هذا العمل مصدر دخل يبقيها وعائلتها على قيد الحياة.
بدأت نميم عملها بمجال البيع والشراء في القرى الريفية مُنذ عام 2007، عقب الغياب المفاجئ لزوجها في العام ذاته؛ حيث تحملت مسؤولية الأسرة وإعالة أبنائها التسعة، على غرار المئات من النساء الريفيات في اليمن.
مواضيع مقترحة
- المرأة الريفية اليمنية: قصة كفاح مُلهمة
- المرأة الريفية تكافح بمشاريع صغيرة لتأمين الغذاء
- المرأة الريفية: رافد اقتصادي خارج الحسابات
خيار إجباري
تقول نميم لـ”منصة ريف اليمن”: “لم تكن في اليد حيلة، كان هذا الخيار هو الأنسب، بعدما أجبرتنا الظروف على العمل لتأمين قوتنا اليومي، كنت أعيل تسعة من أبنائي، بالإضافة إلى سبعة من أولاد أخي، الذين تكفلت برعايتهم وتربيتهم بعد وفاته”.
وتضيف: “كان الأمر صعباً جداً أثناء التنقل بين القرى الريفية من أجل توفير لقمة العيش تحت أشعة الشمس اللاهبة صيفاً، وقسوة برد الشتاء”.
وتشير إلى أن هذه المهنة ليست عيباً بحق المرأة، بل تؤكد أنه من الأفضل أن تعتمد المرأة على نفسها وتعيش من عرق جبينها وتُعيل أسرتها، دون انتظار العطاء أو الصدقة من الآخرين.
لم تتوقف نميم عند هذا الحد، بل بادرت إلى شراء مطحنة يدوية تُعرف باسم “المُور”، الأمر الذي مكّنها من شراء المواد الخام وطحنها في المنزل لضمان جودة منتجها لعملائها؛ الأمر الذي ساهم بتوفير دخل وفير لها.

خلال السنوات الماضية، تحمّلت العديد من النساء الريفيات في اليمن عبء تأمين الغذاء لأفراد عائلاتهن، من خلال العمل في الزراعة والمشاريع الاستثمارية وغيرهما من المجالات التي كانت حكراً على الرجال، لا سيما عقب اندلاع الحرب.
يرى الخبير الاقتصادي “وحيد الفودعي”، أن مهنة البيع والشراء في المناطق الريفية، على الرغم من بساطتها وطابعها الشعبي، تؤدي دوراً محورياً في التنمية الاقتصادية المحلية للقرى.
دور محوري
وأوضح الفودعي لـ”منصة ريف اليمن” أن هذه المهن تُنشئ في الريف أسواقاً محلية صغيرة، مُسهّلةً وصول الناس إلى السلع دون الحاجة للتنقل لمسافات بعيدة؛ الأمر الذي يُنعش الاقتصاد المحلي. كما أنها تخلق فرص عمل منخفضة التكلفة، لا سيما للنساء، وتدعم الحرف والمنتجات المحلية؛ مما يُسهم في الحفاظ على القيمة الاقتصادية داخل المنطقة.
على الرغم من تقدم نميم في السن ومشقة الطريق التي تسلكها، وكفاحها طوال 19 عاماً، إلا أنها لم تتوقف عن العمل مطلقاً، ورغم إصرار أبنائها على تخليها عن العمل، إلا أنها رفضت ذلك، إذ تقول إنها لا تريد أن تُثقل كاهلهم؛ لكونهم يعملون في أعمال يومية بأجر ضئيل.
“لم يذهب تعبي هباءً، فبفضل الجودة العالية لمنتجاتي، أصبحت النساء يأتين إليّ ويطلبنها بشكل مستمر، ما أدى إلى ترويجها، وأصبح لدي زبائن دائمون من معظم قرى الأرياف في المحافظة”، تقول نميم.
أم محمد، إحدى زبائن نميم تقول: “منذ سنوات وأنا أتعامل معها، على الرغم من توفر الحناء والبهارات في كل مكان، لكنني أنتظر مجيئها للشراء منها لجودة منتجاتها”. وتضيف لـ “منصة ريف اليمن”: “تقدم نميم خدمة كبيرة لنساء الريف، إذ توفر كل ما يحتجنه وتوصله إلى المنازل، مع ثقة كاملة في منتجاتها”.

من جانبها تقول ابنة نميم: “رغم تقدم والدتي في العمر، إلا أنها لا تزال مُصِرة على ممارسة مهنتها التي عشنا منها حياة كريمة حتى كبرنا، سعت أمي جاهدة لدعمنا وإكمال دراستنا، حالياً أعمل معها وأساعدها في طحن موادها من الحناء والبهارات”.
وتضيف لـ “منصة ريف اليمن”: “أنا فخورة بأمي؛ لأنها امرأة مكافحة قامت بتربية تسعة أبناء تربية جيدة، والآن كلنا معتمدون على أنفسنا بفضل كفاحها معنا رغم التحديات”.
تحديات وفرص
تؤكد نميم ثابت أن العمل بمهنة الدلالة صعب، إذ يتسبب في أمراض تُصيب النساء العاملات بها، مثل آلام المفاصل نتيجة التنقل والمشي وطحن المواد يدوياً، لكن لم يكن أمامها خيار آخر للوقوف أمام تحديات الحياة اليومية.
يرى الفودعي أن المهن التقليدية -مثل الدلالة- تواجه تحديات اقتصادية كبيرة في العصر الحديث، منها المنافسة مع المتاجر الحديثة والأسواق المنظمة التي تقدم سلعاً بأسعار أقل. كما أثّر التحول نحو التسوق الرقمي سلباً على دور هذه المهن.
ويشير إلى أن هذه المهن تواجه صعوبات في التمويل والحماية القانونية؛ بسبب عملها غالباً خارج الإطار الرسمي، مما يحدُّ من فرص التطوير. كما أن ضعف البنية التحتية، وارتفاع تكاليف النقل، وتقلبات الأسعار تزيد من التحديات؛ الأمر الذي يجعل استمرار هذه المهن يتطلب دعماً وسياسات للإدماج في الاقتصاد الرسمي.

ويؤكد أن الحفاظ على المهن التراثية يتيح فرص عمل مستدامة للمرأة في الأرياف؛ لأنها غالباً لا تتطلب رأس مال كبيراً أو بنية تحتية معقدة؛ مما يسهل انخراط النساء فيها عبر مهن مثل الدلالة، لتصبح المرأة ركيزة أساسية في دخل الأسرة.
ويرى الفودعي أن دمج مهنة الدلالة في السوق الحديثة سيجعلها أكثر جاذبية وربحية، مع الحفاظ على هويتها التراثية، من خلال تدريب الدلالين على التسويق الرقمي واستخدام منصات البيع الإلكترونية لزيادة قاعدة الزبائن وأرباحهم، وربطهم بالمبادرات السياحية والأسواق التراثية لتسليط الضوء على هويتهم الثقافية.
ويلفت إلى أن المرأة الريفية لعبت دوراً محورياً في إحياء ودعم المهن التقليدية؛ لكونها الأقرب لهذه الحرف في البيوت والأرياف، وهي تمزج بين الخبرة التراثية والابتكار.
ويؤكد أن دخول المرأة يُحوّل هذه المهن من نشاط فردي إلى مشروعات صغيرة أو تعاونية تخلق فرص عمل جديدة. من خلال التدريب والدعم التسويقي، يمكن أن تصبح هذه المهن أكثر جاذبية وربحية؛ مما يُعزز تمكين المرأة ويساهم في تنمية المجتمع المحلي.
وتشير إحصاءات البنك الدولي إلى أن النساء يشكّلن نحو 50% من القوى العاملة الزراعية في اليمن، وهي نسبة تمثل 70% من القوى العاملة في المناطق الريفية في البلاد.

