من الأمية للتعليم.. “رضية شمسان” حكاية إصرار ملهمة

أصبحت نموذج مُلهم للمرأة اليمنية في الكفاج من أجل التعليم

من الأمية للتعليم.. “رضية شمسان” حكاية إصرار ملهمة

أصبحت نموذج مُلهم للمرأة اليمنية في الكفاج من أجل التعليم

في قرية هادئة بمديرية المعافر جنوب محافظة تعز، ولد حلم مؤجل ظل حبيس القلب لأربعة عقود. “رضية شمسان”، امرأة خمسينية، لم تدخل المدرسة يوما في طفولتها، كونها نشأت وسط بيئة ترى المدرسة مساحة حكرا على الذكور، لكنها لم تستسلم، ونسجت قصة نجاح ملهمة بعد سنوات.

تستعيد رضية ذكريات طفولتها بحسرة وتقول لمنصة ريف اليمن: “أبي حرمني من التعليم لما كنت صغيرة، لأنه كان يشوف أن تعليم البنات عيب، مثل كثير من الآباء وقتها، كان يعتبر أن البنت مكانها في البيت، مش في المدرسة”.

وتُضيف: “كان إخواني يروحوا المدرسة، وأنا أنظر لهم من بعيد وأتمنى أكون معهم، لكني كنت مجبورة أظل في البيت، أطبخ وأشتغل في الزراعة، لم أدخل المدرسة في طفولتي، ولا عرفت طريقها”.


        مواضيع مقترحة

كغيرها من فتيات الريف، انشغلت رضية منذ الصغر بين أعمال الزراعة والطهي ورعاية الأسرة، وبينما كانت ترى أطفال القرية يحملون دفاترهم في طريقهم إلى المدرسة كانت تتمنى أن تكون بينهم، لكن الواقع فرض مسارا آخر، لكنّ الحلم ظلّ يسكنها.

ورغم تحسّن نسبي في وعي المجتمعات المحلية خلال السنوات الأخيرة، لا تزال نسبة الفتيات الملتحقات بالتعليم في الريف متدنية. ووفقًا لتقرير صادر عن منظمة اليونيسف عام 2021، فإنه “يوجد في اليمن أكثر من مليوني طفل خارج المدرسة، والغالبية العظمى من هؤلاء الأطفال هنّ من الفتيات، لا سيما اللواتي يعشن في المناطق الريفية النائية”.

مرت السنوات، وكبرت المسؤوليات، خاصة بعد إصابة زوجها بمرض جعله غير قادر على العمل، لتجد نفسها المعيلة الوحيدة لتسعة أبناء، افتتحت مشغل خياطة صغيرا داخل منزلها، عملت فيه لساعات طويلة لتأمين قوت العائلة وتعليم أبنائها، لكن شعور العجز عن قراءة كلمة أو كتابة جملة ظل يثقل قلبها.

من الأمية للتعليم.. رضية شمسان حكاية إصرار ملهمة
افتتحت رضية مشغل خياطة داخل منزلها لتأمين قوت أطفالها بعد مرض عائلها (ريف اليمن)

تضيف رضية: “عندما كان أولادي يطلبون مساعدتي في دروسهم، كنت أبكي لأني مش قادرة أقرأ أو أكتب كان وجعًا ما أقدر أوصفه.”، وبعد سنوات طويلة من الحرمان، وتحديدًا في عمر الثانية والأربعين، قرّرت أن تُغيّر مصيرها وأن تمنح نفسها فرصة ثانية.

التحقت بمركز لمحو الأمية، تعلّمت الحروف، وكتبت أول كلمة في حياتها، وسط فرحة أبنائها الذين أصبحوا سندها ومعلميها، بعدها التحقت بمدرسة النعمان، متحدية فارق العمر، وصعوبة المواد الدراسية، وضعف البصر، وحتى التنمر أحيانًا، قسمت يومها بين المدرسة والمشغل والمنزل.

واصلت رضية دراستها بإصرار، وتقول: “كنت أرجع من المدرسة، أشتغل في الخياطة، وبعدها أذاكر. أولادي كانوا يساعدوني كثير، آمنوا فيّ أكثر من نفسي حتى نلت شهادة الثانوية العامة بمعدل 77%”. لم تكن النتيجة مجرد رقم، بل انتصارًا شخصيًا ورسالة أمل لقريتها. تحولت قصتها إلى حديث الناس، وتلقت تكريمًا من السلطة المحلية تقديرًا لكفاحها.

رضية شمسان أثناء مذاكرة دروسها وكتابة واجباتها المنزلية (ريف اليمن)

ابنها عبد العزيز، الذي عايش رحلتها عن قرب، يروي جزءًا من هذه التجربة لمنصة ريف اليمن قائلاً: “كان شعوري مختلطًا بين الفرح والألم؛ فرح لأنها لن تحتاج بعد اليوم لمن يقرأ لها، وألم لأنها بدأت متأخرة بعد أن فات من عمرها الكثير”.

ويتابع بصوت تغمره مشاعر الفخر: “كنت أراها تعود من المدرسة وهي تبكي من صعوبة مادة الرياضيات، لكنّها لم تستسلم. كانت، رغم انقطاع الكهرباء وآلام الظهر، تشعل شمعة وتذاكر حتى منتصف الليل. وقتها أدركت أنني أعيش مع امرأة عظيمة، ومشروع أمل وإصرار لا يُهزم”. ويضيف: “منذ تلك اللحظة، لم أعد أستشير أحدًا في قراراتي إلا أمي، لأنها من جعلتني أؤمن أنني قادر على الوصول لأهدافي، مهما كانت بعيدة”.

عبد العزيز لم يكن مجرد ابن داعم، بل كان المُحرّك الأهم حين كادت تتوقف عن التعليم: “أقنعتها بمواصلة الطريق، واليوم أنا فخور بها جدًا. ومن لا يفخر بأمه، فكيف إن كانت مثل رضية شمسان؟”

لم يمرّ هذا الحدث بصمت، بل تحوّل إلى حدث محلي مُلهِم بعد نجاحها، تداول الناس صور رضية وتهانيهم لها على وسائل التواصل الاجتماعي، وتحوّلت قصتها إلى حديث أبناء القرية والناشطين على مستوى محافظة تعز، حصلت على تشجيع واسع، وتكريم رسمي من السلطة المحلية في تعز، تقديرًا لإصرارها على التعليم، ولكونها نموذج حي للتحدّي.

صورة أثناء تكريم “رضية” من السلطة المحلية تقديرا لإصرارها على التعليم (ريف اليمن)

اليوم، لم تعد “رضية” مجرد ربة منزل منسية على هامش الريف، بل تحوّلت إلى نموذج نسوي مُلهم يُحاكيه الجميع، حتى في محيطها الصغير. تقول جارتها “تقوى ياسين”، وهي واحدة من القريبات منها منذ سنوات: “في البداية، المجتمع كان ينظر لها بنظرة إحباط، والناس في الريف ما يرحموش؛ سخرية وكلام جارح، خصوصًا إنها بدأت في عمر كبير. بس رضية كانت أقوى من كل هذا”.

هذه التجربة الفردية، فتحت النقاش مجددًا حول واقع تعليم الفتيات في القرى اليمنية، وهو واقع يقول عنه الصحفي والناشط المجتمعي “تيسير السامعي”، في حديثه لمنصة ريف اليمن: “واقع تعليم الفتيات في الريف اليمني حزين جدًا”.

ويضيف في حديثه لمنصة ريف اليمن: “كثير من البنات ما درسوش أصلًا، والبعض تركوا الدراسة في سن مبكر، بسبب الوضع الاقتصادي، وغياب الوعي، والعادات والتقاليد التي ما زالت ترى في البنت مجرد مزارعة أو ربة بيت فقط”.

ويلفت إلى أن “بعض هذه التقاليد بدأنا نتجاوزها فعلاً خلال السنوات الماضية، لكن للأسف الحرب الدائرة أعادت الناس خطوات إلى الوراء، وغيّبت الوعي في بعض المناطق”، مؤكدا أن قصة رضية “حالة استثنائية، وستخلق بيئة تشجّع كثير من النساء اللواتي حُرمن من التعليم في الصغر على الالتحاق بمراكز محو الأمية والمدارس”.

رضية شمسان أثناء ذهابها للمدرسة التي تلقت فيها تعليمها خلال السنوات الماضية (أرشيف)

ويختم بالتأكيد على أهمية الحلول الجذرية، قائلاً “يجب أن تكون هناك مبادرات لتوعية الآباء في الريف. وهناك تجارب ناجحة بالفعل في مناطق استطاعت أن تُحدث فرقًا من خلال منظمات عملت على تغيير نظرة المجتمع لتعليم الفتيات، وخففت كثيراً من تأثير العادات والتقاليد”.

مع مرور الوقت، تغيّرت النظرة تدريجيًا: “بعد نجاحها وانتشار قصتها، تغيّر كل شيء، صارت مصدر إلهام للنساء في القرية، والكل صار يقول: (ليش ما نرجع ندرس زي رضية؟)” بحسب “تقوى ياسين”.

حاليا تخطط رضية لمواصلة تعليمها الجامعي في تخصص “مساعد طبيب” لتخدم مجتمعها، مؤمنة بأن “العمر لا يمنع التعليم”. وبات اسمها في القرية مرادفًا للإصرار، حتى أن كثيرين من جيرانها ونساء قريتها بدأوا يتحدثون عن العودة إلى الدراسة على خطاها.

شارك الموضوع عبر:

الكاتب

    مواضيع مقترحة: