في ظاهرة صادمة ومقلقة، تتزايد حالات انتحار الفتيات في القرى الريفية بمحافظة البيضاء وسط اليمن، لتتحول إلى كابوس يخيم على الأهالي ويثير مخاوف من تفاقمها، في ظل صمت مجتمعي يضاعف من حدة المأساة.
“حنان (16 عاما)”، اسم مستعار، إحدى ضحايا هذه الظاهرة، خرجت في أحد الأيام لجمع الحطب من سفوح الجبال، تحمل حبلا في يدها وقهرا في قلبها. تروى جارتها قصتها وتقول:” قبل الحادثة بساعات عادت إلى بيت والدتها تشتكي قسوة حماتها وإهاناتها المتكررة، لكنها لم تلقَ سوى رد صارم: “مكان البنت بيت زوجها”.
وتضيف: “مع حلول المساء لم تعد حنان إلى بيت أهلها ولا إلى منزل زوجها، قبل أن يُعثر على جسدها في قاع أحد الأودية، بعد أن أنهكتها الحياة وزواج القاصرات الذي فرضه عليها والدها. ويُرجح أنها ألقت بنفسها هربًا من واقع لم يترك لها مفرا، خاصة بعد أن أجبرها والدها على الزواج وهي طفلة.
مواضيع مقترحة
-
فتاة ريفية تحترف صيانة الهواتف لحماية النساء من الابتزاز
-
التعليم الجامعي: حلم فتيات الريف الذي لا يتحقق
-
زواج القاصرات: القتل البطيء للفتيات في الريف
قصة حنان، التي أفزعت الأهالي والسكان في محافظة البيضاء، تعكس واحدة من عشرات المآسي التي تشهدها الأرياف اليمنية، حيث يدفع الصمت، والعرف، والفقر فتيات في عمر الزهور إلى نهايات مأساوية.
تزايد مخيف
حليمة هي الضحية الأخرى لم تكن تتوقع، حين أكملت تعليمها، أن شهادتها ستكون سببًا للسخرية والاتهامات من أسرة زوجها، ومع سفر زوجها، ضاق صدرها بالوحدة، وتعبت من الإهانات، وعادت مرارا إلى بيت أهلها، لكنهم أرجعوها بسبب الأعراف التي تفرض على الزوجة أن تظل في خدمة أم زوجها وقت سفره.
في أحد الصباحات، خرجت حليمة لجلب الماء من البئر تاركة وصية لوالدتها بالاعتناء بأختها الصغيرة. طال غيابها، وعند البحث عنها عُثر على جسدها غارقا في البئر، وحذاؤها بجانبه.
تصاعدت حالات الانتحار في القرى الريفية بمحافظة البيضاء خلال السنوات الخمس الماضية، لكنها بلغت ذروتها خلال العامين الأخيرين. والفتيات يشكلن النسبة الأكبر؛ بسبب القيود المجتمعية والأزمة النفسية والاجتماعية وزواج القاصرات.
تم رصد 12 حالة انتحار لفتيات في مختلف أرياف محافظة البيضاء خلال عام 2024 ما يعكس تصاعدا مقلقا في معدلات هذه الحوادث
مصدر مسؤول في شرطة المحافظة -فضّل عدم الكشف عن هويته- قال إن السلطات المحلية والمنظمات العاملة في محافظة البيضاء رصدت 12 حالة انتحار لفتيات في مختلف أرياف المحافظة خلال العام المنصرم، لافتا إلى أن هذا الرقم يعكس تصاعدا مقلقا في معدلات هذه الحوادث مقارنة بالسنوات السابقة.
أسباب اجتماعية ونفسية
الأخصائية النفسية الدكتورة “شفيقة نعمان” قالت إن ” ظاهرة انتحار الفتيات في المناطق الريفية تعد واحدة من القضايا الصامتة التي تتفاقم بعيدًا عن الأضواء؛ حيث تتداخل فيها العوامل الاجتماعية والثقافية مع أوجه القصور القانوني؛ مما يخلق بيئة خصبة لوقوع هذه المآسي”.
وتضيف نعمان لمنصة ريف اليمن: “لا يمكن فصل الانتحار عن عوامل اجتماعية متراكمة، أبرزها العنف الأسري، مثل شيوع الضرب والإهانة والإيذاء النفسي، دون آليات ردع فاعلة، في ظل ثقافة مجتمعية تبرر سلوك المعتدي”.
“كذلك زواج القاصرات، الذي يؤدي إلى مشكلات صحية ونفسية واجتماعية معقدة، بالإضافة إلى الوصم الاجتماعي والخوف من الفضيحة، حيث تجد الفتاة نفسها أمام ضغط هائل للحفاظ على ‘السمعة، حتى على حساب حياتها”، تقول نعمان.
وتُشير إلى أن من الأسباب أيضًا العزلة وضعف الوصول للخدمات، حيث تندر المنظمات والمراكز التي تقدم الدعم النفسي أو القانوني في القرى، إلى جانب الفقر والتبعية الاقتصادية؛ إذ يغيب الأمل في فرص العمل أو التعليم؛ مما يجعل الفتاة عاجزة عن مغادرة البيئة المؤذية.
“انتحار الفتيات في الأرياف ليس قدرًا محتومًا، بل هو نتيجة تراكمية لعوامل اجتماعية وقانونية يمكن معالجتها إذا توفرت الإرادة السياسية والمجتمعية لتغيير الواقع”
وخلال سنوات الحرب، تفاقمت الأوضاع المعيشية لدى غالبية السكان؛ ما انعكس سلباً على الصحة النفسية على ملايين اليمنيين، حيث لجأ الكثير منهم إلى خيارات يائسة، من بينها الانتحار للخلاص من هذه الظروف.
وفي ظل تزايد حالات الانتحار، تؤكد الدكتورة شفيقة نعمان أن الجانب القانوني لا يقل خطورة؛ إذ تعاني الأرياف من ضعف إنفاذ القوانين، رغم وجود نصوص تحظر العنف أو زواج القاصرات، بالإضافة إلى غياب آليات الإبلاغ الآمنة التي تضمن السرية والحماية.
التوعية وتطبيق القانون
وتطرقت نعمان إلى تغليب الحلول العرفية والقبلية على الإجراءات القانونية، وقصور الحماية المؤسسية مع قلة مراكز الإيواء وصعوبة الوصول إليها. وأوضحت أن الجهات الرسمية غالبا ما تركز على إثبات سبب الوفاة بدلا من البحث في المسببات النفسية والاجتماعية، بينما تواجه النيابة والقضاء صعوبات في إثبات التحريض على الانتحار لغياب الأدلة والشهود.
وتُشدد الدكتورة نعمان في حديثها لـ “منصة ريف اليمن” على أن مواجهة الظاهرة تتطلب تشديد تطبيق القوانين الخاصة بحماية المرأة والطفل، خاصة في الأرياف، كما تدعو إلى إنشاء خطوط إبلاغ سرية وآمنة، وزيادة مراكز الإيواء وتوزيعها جغرافيًا لتشمل القرى، بالإضافة إلى تدريب الكوادر الأمنية والقضائية على قضايا العنف القائم على النوع الاجتماعي.
وتُشير أيضًا إلى أهمية تفعيل الحملات التوعوية، ودمج الدعم النفسي والاجتماعي في المدارس والمراكز الصحية لرصد الحالات مبكرًا. وتؤكد الدكتورة شفيقة أن “انتحار الفتيات في الأرياف ليس قدرًا محتومًا، بل هو نتيجة تراكمية لعوامل اجتماعية وقانونية يمكن معالجتها إذا توفرت الإرادة السياسية والمجتمعية لتغيير الواقع”.
بحسب بيانات صندوق الأمم المتحدة للسكان فإن 120 ألفاً فقط من بين 7 ملايين يمني يستطيعون الوصول إلى خدمات الرعاية الصحية النفسية.
بدورها قالت المحامية “فاتن الزبيري” إن القوانين اليمنية تجرم العنف ضد المرأة وزواج القاصرات، ولكن التحدي الأكبر يكمن في غياب التنفيذ الفعلي خصوصا في الأرياف حيث تغلب الحلول العرفية والقبلية على العدالة القانونية.
لا توجد إحصائيات وطنية شاملة ودقيقة محدثة حول حالات الانتحار نتيجة ضعف نظام التوثيق والرصد، لكن بيانات منظمة الصحة العالمية تظهر أن معدل الانتحار في اليمن عام 2021 بلغ حوالي 4200 حالة؛ ما يعكس تحديات كبيرة تواجه الصحة النفسية في البلاد، خاصة في ظل الحرب والأوضاع الاجتماعية والاقتصادية الصعبة.
ورغم أن المعدل ليس من الأعلى عالميا الا أنه يظل مؤشرا هاما يستدعي اتخاذ إجراءات وقائية وعلاجية من قبل الجهات المختصة، وتوعية مكثفة من قبل الإعلام والمنظمات المهتمة، فضلا عن دور الأسر الذي يعتبر محورياً.
ووفقاً لصندوق الأمم المتحدة للسكان، فإن اليمن لا يزال بعيداً كل البعد عن المعيار العالمي للرعاية الصحية النفسية، لافتا إلى أن 120 ألفاً فقط من بين 7 ملايين يمني يستطيعون الوصول إلى خدمات الرعاية الصحية النفسية، وهو عدد ضئيل لا يتناسب مطلقاً مع حجم الاحتياجات المتعاظمة والمتزايدة.