عنب اليمن تحت الشِّباك والمناخ المتغيّر فوقهما

تنتج بني حُشيش في صنعاء نحو 40 بالمئة من الإنتاج على مستوى البلاد

عنب اليمن تحت الشِّباك والمناخ المتغيّر فوقهما

تنتج بني حُشيش في صنعاء نحو 40 بالمئة من الإنتاج على مستوى البلاد

في المرتفعات الشرقية لمحافظة صنعاء، ينتظر المزارعون حلولَ فصل الصيف ورياحه الموسمية المندفعة من صوب المحيط الهندي وبحر العرب، لكي يحملا المطر معهما، ولكن في يوم رمضاني من صيف سنة 2020، خيَّم وقعٌ ثقيلٌ على سكان مديرية بني حشيش الواقعة في تلك المرتفعات. ففوق الجائحة الوبائية وأخبار الموت، اجتاحت عاصفة غير مسبوقة قراهم وكروم العنب الذائعة. ظلّ المطر يصبّ على مدار ثلاثة أيام، وأحياناً بحبّات بَرَدٍ تشبه الحصى، لتفيض سيول تجرف شقاء موسمٍ زراعي بأكمله.

لم يبقَ شيء سوى غصونٍ مُتكسِّرة وعناقيد تالفة، وجدها المزارعون في الكروم حين زاروها بعد العاصفة. كان العلوّ عن سطح البحر بأكثر من ألفَي مترٍ يمنحهم نعمتَين. أولاً: منسوب أمطارٍ مرتفعٍ بفضل تكَدُّس السحب الموسمية فوق تضاريسهم الجبلية. وثانياً: عوامل طبيعية تسهم في نضوج حبّات العنب ببطء وتوازنٍ، على غرار الهواء الجاف، والرطوبة المنخفضة، وبالأخص الفارق الحراري الكبير بين النهار والليل. ولكنّ النعمتَين انقلبتا نقمةً، إذ أنذرَت العاصفة ببلوغ ظاهرة التغيُّر المناخي مرحلة متطرِّفة.


       مواضيع مقترحة

غريزة البقاء لا غير ما حرَّك المزارعين على الفور، دافِعةً بهم نحو البحث عمّا هو متوافر من وسائل وأدوات تحمي مصدر أرزاقهم شبه الوحيدة. ولأنّ النجاة ثمنها غالٍ على من لم يحظوا بدعمٍ حكوميٍّ وافٍ وسط الحرب، رضخ هؤلاء المزارعون بصورةٍ نهائية إلى فكرة «الشِّباك» رغم بدائيّتها. تُعرَف بـ «التَّل» أيضاً، وهي عبارة عن أغطية كانت تُمَدّ فوق دوالي الكروم لتجنيبها نقر الطيور، بينما يُراد منها في هذه المرة حماية كلّ حبّة عنبٍ من حبّات بَرَدٍ كأنّها بالفعل حصى لمن يراها.

التعلُّم بالتجربة

يمكن تقسيم أنواع العنب اليمني ضمن ثلاث فئات، وفق مقالة بعنوان: «عنب اليمن فيه العذارى وأطرافهن والعيون». وهي: «العسلي (الأبيض)، والأحمر، والأسود». «وتحت كل فئة»، تضيف المقالة، «تتفرَّع أصناف مختلفة يتم التمييز بينها بحسب معايير أبرزها حجم العنقود وشكله، وحجم حبة العنب وشكلها، وحالة اللحمة الداخلية، ووجود الحصرم من عدمه، ودرجة الحلاوة». كما أنّ التصنيف يشمل «مدى قابلية التجفيف إلى زبيب».

على هذا الصعيد، تُعدُّ مديرية بني حشيش من أشهر مناطق زراعة العنب، إلى جانب بني الحارث وخولان الطيال، وبني مطر. وتشير تقديرات  إلى أنّ إنتاجها يبلغ «50 ألف طن سنوياً»، أي ما يناهز 34٪ إلى 40٪ من إجمالي إنتاج اليمن بشكل عام.

هذا كلّه مهدّد؛ فما عكسته عاصفة صيف 2020 هو تطرُّف «النمط المَطَري» الذي كان سائداً في المرتفعات الشرقية لصنعاء، وفق التفسير العلمي الذي قدَّمه عدد من المختصّين. فمع ارتفاع درجات الحرارة، تتكوَّن سحبٌ مُشبَّعة بقدر أكبر، لتهطل أمطار أشد غزارةً طوال مدَّة زمنيةٍ قصيرة نسبياً، وغير منقطعة.

عنب اليمن تحت الشِّباك والمناخ المتغيّر فوقهما
تظهر الصورة مزراع العنب مغطاة بالشباك في بني حُشيش بريف صنعاء (ريف اليمن)

في الخلفية، ستتجاوز آثار التغيُّر المناخي الواقعَ الحالي، لتطال تاريخاً قديماً من زراعة العنب في مرتفعات صنعاء، وفي اليمن عامةً. فما قد يصير من الماضي بصورةٍ قاطِعةٍ لا رجعة فيها هي المقولة التاريخية الدّالة على مدى الجودة: «عنب اليمن وبلح الشام».

لا يتردَّد ابن بني حشيش، “علي جارالله”، بالتشديد على وجوب دعم مزارعي منطقته «من أجل الاستمرار». يوضح أنّهم «أناس على الفطرة، لا يدركون تماماً الأثر على الزراعة»، قبل أن يستدرك: «لكنَّهم يَتعلمون بالتجربة». ساقَت هذه الوضعية -وفقاً له- إلى تبنّي فكرة «الشِّباك» دوناً عن غيرها من الأدوات ذات الكُلَف الأعلى.

درعٌ واقٍ

كان علي جارالله مهندس طيران بالأصل، ولكنّه آثرَ عليها العنب وتجارته محلياً وخارجياً. له متجر شهير في صنعاء، اسمه «أصل العنب». بدوره، ابنُ عمّه وجاره، المهندس محمد، نذر نفسه للكروم. فلهذه الزراعة تقاليد عائلية ومواريث لا يطويها تبدُّل الزمان، ولكنْ صار تغيُّر المناخ عدوّها.

يعتبر كلاهما أنّ العنب «مصدر دخل وطني، وينبغي الحفاظ عليه»، خاصةً من خلال تعزيز حمايته بـ «الشِّباك». ويوضح المهندس محمد أنّ اللجوء إليها لم يزدَد سوى في السنوات الأخيرة مع ارتفاع حجم الخسائر، مشيراً في الوقت نفسه إلى أنّ تصميمها «صار يتطلّب دقةً أكبر، وغدَت أضيق نسبياً». فهي تُرفع حالياً «على علوٍ أكبر لكي تُعزِّز حماية العرائش والدوالي من البَرَد»، لافتاً إلى أنّها «تتطلب صيانة دائمة، لضمان الاستفادة منها لأطول مدّة ممكنة».

كذلك يشرح المهندس أنّ «الشِّباك» تُستخدم عادةً لمدة شهرين لا غير. فتُزال عند اقتراب مرحلة نضوج العنب؛ «حتى لا تعيق عملية جني المحصول». ولكنّ لا يغفل أن يُنبِّه إلى أنّ الفكرة «ليست جديدة تماماً، إذ ظهرت منذ التسعينيات»، إنّما «في المزارع الصغيرة أو حيث تقل كثافة الأشجار».


تعد «الشِّباك» بمثابة درعٍ يقي تقلُّبات النمط المطري وحبّات البَرَد ولم تكن استجابة المزارعين لاستخدامه أمرًا سهلاً، خاصةً أنّها تُثقِل على كواهلهم مادياً


في برهانٍ على نجاعة الفكرة ومواءمتها القدرات المالية الهشّة في تلك المجتمعات المحليّة، تتحوَّل «الشِّباك» إلى أداةٍ في مختلف أرجاء زراعة العنب في اليمن. فهي، وفقاً لعلي ومحمد، «أداة تكيُّف مبتكرة» استجاب لها المزارعون بقناعة أكبر كلما لمسوا نتائجها المباشرة في تقليل الخسائر وضمان صمود موسم العنب.

صارت «الشِّباك» بمثابة درعٍ يقي تقلُّبات النمط المطري وحبّات البَرَد. وقد لاحظ المزارعون النتائج الملموسة منذ البداية: فبعدما حمت عناقيدهم من الطيور، ها هي تردع عنهم هطولاتٍ لا تُبقي ثمَراً ولا شجَراً.

 لكلِّ حلٍّ حدود

لم تكن استجابة المزارعين لاستخدام «الشِّباك» أمرًا سهلاً، خاصةً أنّها بدورها تُثقِل على كواهلهم مادياً. تُباع بالمتر الواحد، بعرضٍ يُقارب المترَين وطولٍ يصل إلى أربعة عشر متراً. وهذا ما يجعل تغطية مساحات واسعة من كروم العنب عبئاً مالياً يضاعف المصاريف، ويقلل هوامش الربح.

يضاف إلى ذلك أنّ نصب «الشِّباك» وإزالتها يتطلبان جهداً كبيراً. كما أنّ عمرها الافتراضي قصيرٌ، إذ قد تتمزق بسهولة في حال أسيء التعامل معها، أو تتلف تحت وطأة البَرَد القوي وأشعة الشمس الحارقة. ولن يعود الفضل في استمرارها سوى إلى حنكة المزارع وخبرته.

إلى جانب التكلفة والجهد، تُضاف عوامل أخرى تعيق الاكتفاء بـ «الشِّباك». ففي نهاية المطاف، هي لن تكون حلّاً أمام تشبُّع العنب بالماء وفقدانه الحلاوةِ، بسبب أمطار صارت تهطل في نهاية الموسم.

تعجز «الشِّباك» عن أن تتحوَّل إلى حلٍّ متكاملٍ ومستدامٍ يقي النظم الزراعية والغذائية آثار تغيّر المناخ. يأتي ذلك في وقتٍ يُنبِّه برنامج الأغذية العالمي في إصدارته إلى أنّ ما يُعين هذه النظم على أن تصمد في وجه التأثيرات الراهنة والمستقبلية، هي «الممارسات الجيّدة».

يمكن تقسيم أنواع العنب اليمني ضمن ثلاث فئات وهي الأبيض، والأحمر، والأسود (ريف اليمن)

وبينما يشدِّد البرنامج على أنّه لم يَسبق أن كانت الحاجة إلى التحرّك إزاء الآثار على هذه النظم «أكثر وضوحاً ممّا هي عليه اليوم»، تشير توصياته إلى أمرٍ يتعذَّر توفُّره كما يجب في بلد يعاني الحرب، وهو «دعم سياسات وخطط وإجراءات تكيّفية تحوّلية».

غير أنّ تلك العوامل والعوائق والسياقات كافة يُضاف إليها دليلٌ حاسمٌ من شأنه الإطاحة بإمكانية اعتماد «الشِّباك» حلاً على أي مدى زمنيٍّ كان. ففي دراسة صدرت هذا العام عن المجلة العلميّة المرموقة Physics and Chemistry of the Earth، بعنوان «استشراف التقلّبات المطرية فوق المرتفعات اليمنية عبر التنزيل الإحصائي للفترة 2026–2100»، يرِد أنّ «الهطول المطري في المرتفعات اليمنية يُتوقَّع أن يزداد على المقياس الزمني السنوي بنسبة قد تصل إلى 34٪ مقارنةً بفترة الأساس 1991–2020».

تلفت الدراسة إلى أنّ الآثار على المرتفعات الغربية لصنعاء ستكون أكبر، ولكنّها تشدد على أنّ المنطقة برمَّتها «شديدة الهشاشة أمام هذه التغيّرات والتقلبات». وفي الخلفية الأعم، ما هو على المحك، وفق الدراسة، هو «النظام الزراعي في مرتفعات اليمن، (والذي يعدّ واحداً) من أقدم الأنظمة الزراعية في العالم وأكثرها تطوُّراً».


*ُأنتجت هذه المادة في إطار برنامج تدريبي بالتعاون مع “أوان” ومنظمة “دعم الإعلام الدولي” International Media Support ( lMS)

شارك الموضوع عبر:

الكاتب

    مواضيع مقترحة: