في أعماق صحراء تهامة، التي طالما عرفت بقساوتها واتساعها، بدأت قصة مختلفة، هناك بين الكثبان الرملية الممتدة على مساحة تقارب 600 ألف هكتار في محافظتي الحديدة وحجة، انطلقت مبادرة وطنية طموحة لتحويل الرمال إلى حقول منتجة.
لم يكن الطريق سهلا، لكن جهود الجمعيات التعاونية الزراعية حولت المشروع إلى قصة نجاح متنامية، تُكتب فصولها اليوم بعرق المزارعين وتعاون المجتمعات المحلية.
يقول المهندس “أحمد هيج”، مسؤول الجمعيات الزراعية في تهامة، إن هذه المناطق تمثل “العمق الاستراتيجي للتوسع الزراعي في اليمن”. ويضيف لـ”منصة ريف اليمن”، أن دراسات الهيئة العامة لتطوير تهامة، التي استخدمت تقنيات الاستشعار عن بُعد وصور الأقمار الصناعية، كشفت عن إمكانات واسعة للأراضي الرملية والصحراوية.
مواضيع مقترحة
- زراعة القمح في لحج: نجاح واعد رغم التحديات
- هل تستطيع اليمن الاكتفاء الذاتي من محاصيل الحبوب؟
- معرض الحبوب أبين: دعوة للعودة إلى الأرض
“تم تقسيم تهامة إلى مناطق ساحلية، ومناطق الحواز، والمناطق المطرية، إضافة إلى الأودية، وهو ما منح المشروع مرونة كبيرة في تنويع المحاصيل واستغلال الموارد المائية الطبيعية كالأمطار والسيول”، يوضح هيج.
تنمية وحماية البيئة
لا يتوقف مشروع زراعة الصحراء عند كونه مبادرة زراعية فحسب، بل يجمع بين التنمية الاقتصادية وحماية البيئة وتعزيز التماسك الاجتماعي، فمن الناحية الاقتصادية، أسهم البرنامج في رفع إنتاج محاصيل استراتيجية مثل الحبوب والبقوليات، ما قلّل من الاعتماد نسبيا على الاستيراد.
أما بيئيًا، فقد شكّل المشروع ما يشبه “الجدار الأخضر” في وجه التصحر، من خلال استخدام نباتات ذات جذور عميقة لتثبيت الرمال. وتشير تقارير بيئية إلى أن نحو 97% من أراضي اليمن تعاني من درجات متفاوتة من التصحر، ما يجعل هذا البرنامج واحدًا من أهم الجهود لمواجهته.
وبمرور الوقت، ساعد الغطاء النباتي الجديد على تحسين خصوبة التربة، وخفض درجات الحرارة، والحد من الغبار والعواصف الرملية التي تهدد صحة السكان، أما اجتماعيًا، وفر المشروع آلاف فرص العمل، وشجع على تأسيس جمعيات تعاونية عززت روح المبادرة والتعاون في مجتمعات كانت مهمشة لسنوات.
من جانب آخر، يوضح “شفيق الخولاني”، مسؤول صيانة البذور في المؤسسة العامة لإكثار البذور، أن المؤسسة وفّرت ما يقارب 400 طن من البذور المحسّنة للموسم الزراعي الأخير، إلى جانب جهود مؤسسات أخرى ساهمت بإجمالي يقارب 390 طنًا من البذور.
ويقول الخولاني لـ”منصة ريف اليمن”: “قمنا بتوزيع البذور على أكثر من 20 جهة حكومية ومنظمات مجتمع مدني، ما مكّننا من زراعة 100 ألف هكتار، بينها 20 ألف هكتار ضمن البرنامج الرسمي و80 ألف هكتار بمبادرات من المزارعين أنفسهم”.
لكن ثمة تحديات لا تزال قائمة، أهمها ضعف نسبة استرداد البذور من الجمعيات — التي لم تتجاوز 25% — وهو ما يستدعي، بحسب الخولاني، وضع آليات واضحة لضمان استدامة زراعة الصحراء.

تعاون مجتمعي
في السياق نفسه، يؤكد “بكيل طاهر”، مدير التسويق في الاتحاد التعاوني الزراعي، أن نجاح المشروع يعود إلى تفاعل المزارعين والجمعيات مع هذا الجهد الوطني. ويقول إن “نحو 18 جمعية تعاونية شاركت في الموسم الماضي، تضم كل واحدة منها ما بين 2000 و3000 مزارع، ما يعكس اتساع نطاق المشروع وأثره المجتمعي”.
ويلفت إلى أن الاتحاد لعب دورًا محوريًا في تنسيق الجهود بين الجمعيات والجهات الحكومية، وحتى الجمعيات الجبلية التي استأجرت أراض في تهامة، وساهمت في تنفيذ الزراعة بشكل جماعي. كما عمل الاتحاد على تأمين المدخلات الزراعية من بذور وحراثات، بالتعاون مع مؤسسة الحبوب ومؤسسة إكثار البذور ووحدات التمويل المحلية.
يقول طاهر: “العمل المؤسسي والجماعي هو ما يجعل هذا المشروع قابلاً للاستمرار”، مشيرًا إلى أن نجاح الموسم المقبل يعتمد على تضافر الجهود، واستثمار الأمطار، وتحسين إدارة الموارد الزراعية.
يبدو مشروع زراعة الصحراء في تهامة لا يمثل مجرد محاولة لزراعة الرمال، بل هو تحول في النظرة إلى البيئة والزراعة والتنمية، فبينما تواجه البلاد تحديات اقتصادية وبيئية معقدة، تبرز هذه التجربة كنموذج محلي لابتكار الحلول من رحم الصعوبات؛ حيث تتحول الصحراء إلى أرض واعدة بالأمل، ويعود المزارع اليمني ليكتب قصته مع الأرض من جديد.
تطرح تهامة سؤالاً وجودياً: هل يمكن لرمالها أن تُزهر؟ الإجابة، بحسب الأكاديمي والخبير الزراعي الدكتور “منصور حسن الضبيبي”، تكمن في الإرادة والشراكة، مشيرا إلى أن الحديث عن “زراعة الصحراء” في تهامة لم يعد خيالاً، بل تحول إلى مشروع وطني يرتكز على أسس متينة للنجاح.

التوقيت والتنويع
ويضيف: “المنطقة، التي لطالما كانت سلة غذاء تقليدية تنتج الحبوب والفواكه الاستوائية مثل المانجو والموز والباباي، تمتلك اليوم القدرة على فتح آفاق زراعية جديدة في الأراضي الرملية الشاسعة، مدعومة بمياه جوفية مناسبة، وعمالة وفيرة، وتقنيات زراعية حديثة، وأصناف محسنة، وخبرات محلية كفؤة”.
يؤكد الضبيبي أن الرهان الأكبر يكمن في التوقيت والتنويع؛ فمناخ تهامة يمنحها ميزة تنافسية واضحة: القدرة على إنتاج محاصيل مثل البطيخ والشمام خلال موسم الشتاء (أكتوبر – مارس)، وهو الموسم الذي يغيب فيه المنافسون الإقليميون. هذا التوقيت المثالي يفتح الباب أمام تصدير المنتجات إلى أوروبا وبلاد الشام وتركيا، ويشكل فرصة لجذب العملة الصعبة، وتعزيز الريادة الإقليمية للقطاع الزراعي.
ويرى أن نجاح مشروع زراعة الصحراء يتجاوز جهود المزارع الفردي ليصبح مسؤولية وطنية مشتركة، تتطلب تضافر ثلاث قوى محورية: الدولة كداعم رئيسي لضمان إدارة مائية مستدامة، وتطبيق تقنيات ذكية، وتوفير البنية التحتية وتقديم حوافز للمستثمرين.
فيما المحرك الثاني هو المعرفة كقاعدة عبر الجامعات والمراكز البحثية لتطوير أصناف مقاومة للحرارة، والمؤسسات التنموية لدعم وتمكين صغار المزارعين. والثالث المستثمر كمحرك من خلال ضخ رؤوس الأموال في الزراعة التعاقدية وقطاع التصنيع الغذائي، الذي يساهم في تقليل الهدر، وتحويل الفائض من المحاصيل الطازجة إلى منتجات ذات قيمة مضافة عالية.

