الإثنين, ديسمبر 8, 2025
.
منصة صحافية متخصصة بالريف في اليمن

ذوو الإعاقة.. قصص كفاح بإرادة لا تنكسر

لم يكن الحضور يتوقعون أن اللحظة التي ستنهض فيها “عائشة الشويع” (أحد ذوي الإعاقة) إلى المنصة ستغير مزاج القاعة بأكملها، كانت تمسك بالمايك بصوت متقطع يختلط بحشرجات الذاكرة، تتنفس قبل أن تتكلم، وكأنها تعيد ترتيب ذاكرتها كي تختار من الألم ما يصلح للبوح.

بدت عائشة وكأنها تستعيد رحلة بدأت منذ الطفولة حين قادتها والدتها إلى المدرسة بحثا عن حقها في التعليم، في مجتمع يرى الإعاقة عيبا قبل أن يراها إنسانا، تروي اللحظة التي لا تنساها وتقول: “شفت الكربة في صوت أمي، شفت الدموع في عيونها عندما قيل لها إن قبولي مشروط بإقناع سائق الباص بنقلي يوميا، حينها قلت لنفسي: سأكون شيئا كبيرا في هذا المجتمع”.


مواضيع مقترحة


عائشة حكاية واحدة من سبعة أصوات صعدت منصة قادرون3، المؤتمر الوطني الثالث للمتحدثين من الأشخاص ذوي الإعاقة، الذي نظمته مؤسسة نهضة فكر بصنعاء، برعاية صندوق رعاية وتأهيل المعاقين، بالتزامن مع اليوم العالمي للأشخاص ذوي الإعاقة.

نجاح رغم الألم

لم تكن عائشة مجرد متحدثة، كانت مرآة لأربعة ملايين إنسان يمثلون 15٪ من سكان اليمن ممّن يعيشون تجارب مشابهة، بصمت أحيانا، وبكثير من القوة أحيانا أخرى، فحكايتها التي أدمعت العيون لم تتوقف عند أبواب المدرسة، فقد وجدت مدرسة تقبلها على بعد أربع حارات من منزلها، وكل مرحلة دراسية كانت معركة جديدة، لكنها كانت تردد لنفسها: “سهل، أنا قريبة من حلمي، فترة وتعدي”.

رغم الصعوبات تخرجت من الثانوية بنسبة 72%، وقررت مواصلة دراستها الجامعية في تخصص المختبرات الطبية في إحدى الجامعات بصنعاء، وهناك بدأت معركة أخرى مع الدرج، والممرات، والتنقل بين المباني الفاقدة للتجهيزات التي تراعي الأشخاص ذوي الإعاقة.

تقول بأسى: “في المختبر سمعت زميلة تقول: أهلك مش أحسن يعالجوكي بدل ما يدرسوكي؟ هذا الصوت كسرني، لكنه نفسه خلاني أتخرج في 2021 بمزاولة المهنة في تخصص المختبرات”.


أربعة ملايين إنسان يمثلون 15٪ من سكان اليمن يعيشون تجارب مشابهة لعائشة بصمت أحيانا، وبكثير من القوة أحيانا أخرى


وتواصل حديثها “:بعد التخرج كان الطريق أكثر قسوة، فقد سُميت بـ”العرجاء” وصار الحصول على وظيفة شبه مستحيل”، ومع ذلك لم تستسلم، فاختارت تحديا جديدا ودخلت مجال القبالة رغم التعليقات المثبطة: “ما حد قبلك في المختبرات عاد بايقبلوكي بالقبالة”؛ لكن بوابة الأمل فتحت عندما قال لها الدكتور طارق النهمي: “ادرسي وكل التكاليف علينا” فاجتهدت وتميزت وتكرمت مرات عدة في الجامعة.

تروي بعين دامعة موقفا آخر في قسم الطوارئ حين قالت لها إحدى الطبيبات: “عالجي روحك أحسن من معالجة الناس”، تقول: “كانت خنجرا مسموما في قلبي، توجهت إلى الصلاة وبكيت”.

قبل مواصلة الدراسات العليا عرضت حالتها على طبيب عظام، ليقرر لها ثلاث عمليات كبرى بتكلفة عالية، لكنه أجرى لها العلاج مجانا مؤمنا بقوتها. أما والدها فكان سندها الأول: “قال لي والله ما توقفي الدراسة، وكان يوصلني للجامعة بالدراجة النارية”، وكان الأساتذة يندهشون من عزيمتها ويقولون: “عندك طاقة وإرادة ما شاء الله”، كما تصف.

تتابع: “يوم التخرج لم أستطع المشاركة كما فعل الزملاء”، لكن الله عزّاها بتكريم كبير داخل القاعة، ومنحة لمواصلة دراسة الماجستير، واليوم، تقف عائشة على أعتاب حلم جديد؛ سنة أولى ماجستير، ودبلوم سونار، والدورة الخامسة في معهد لغات، وتعمل متطوعة في قسم الطوارئ والولادة بمستشفى ضلاع همدان.

تبتسم وهي تقول: “مع كل طفل يولد أشعر بطاقة جديدة، لأن إعاقتي كانت نقص أكسجين عند الولادة، لكنني اليوم أمنح الحياة لمن يولدون أمامي”.


مدير صندوق رعاية المعاقين: معاقو الأرياف الأكثر تهميشا وحرمانا، وأسرهم تضطر للانتقال من مناطقها بحثا عن بيئة مناسبة.


على منصة المؤتمر أيضا، وقف “أنور الحمادي” بثقة لا تشبه طفولته الأولى في ريف تعز، ولد كفيفًا، وكانت والدته تخاف عليه حتى من اللعب، لكنه كان يهرب نحو أصوات الأطفال، ويعود بوجه مليء بالخدوش. يقول: “بس كنت أحس إني مثلهم بالضبط”.

معاقو الأرياف الأكثر تهميشا

قرر والد أنور تعليمه فكان منعطفا فارقا؛ كان يحمله على ظهره في طريق طويل يفصل ثلاث قرى عن المدرسة، رحلة يومية عبر الجبال والوديان صنعت بدايات الحلم، يروي أنور للجمهور بصوت هادئ لكنه مليء بالمعنى: “كان أبي يشيلني على ظهره للمدرسة، ما كان الطريق سهل، بس كان طريق نور لقلبي”.

بدأ يتدرّج في تعليمه حتى تخصص في علوم القرآن الكريم، مؤمنًا بأن البصيرة أعمق من البصر. واليوم أصبح يدير مشروعه الخاص في مجال المكتبية والقرطاسية، ولم يكتف بذلك؛ بل ابتكر وسائل تعليم حديثة للمكفوفين تساعد غيره في رحلة التعلم التي قطعها وحيدا.

يقول: “كنت أتمنى أدوات تعلم تساعدني وأنا صغير، فقلت لازم أبتكر شي يفيد غيري”، نجاحات أنور لم تتوقف، إذ حصل على جوائز ذهبية وفضية في مسابقات خاصة بالمكفوفين، تقديرًا لإبداعه وإسهامه في تطوير أدوات داعمة لحق التعليم.

وفي ختام حديثه أمام الجمهور قال جملة توقف عندها التصفيق طويلًا: “الإعاقة مش نهاية، هي بداية طريق مختلف، والبصيرة أقوى من النظر إذا آمنت بالله وبنفسك”.

الدكتور “علي مغلي”، المدير التنفيذي لصندوق رعاية وتأهيل المعاقين، قال إن إحصائيات الأمم المتحدة تشير إلى أن نسبة المعاقين في اليمن تصل إلى 15% من السكان، أي أكثر من أربعة ملايين شخص، مشيرا إلى أن الصندوق، بالتعاون مع مركز الإحصاء، أجرى دراسة في محافظة المحويت، وبلغت نسبة المعاقين فيها 11.3% من إجمالي السكان، معتبراً هذه النسبة مرتفعة جدًا.


فائز: المجتمع ما يزال ينظر إلى الأشخاص ذوي الإعاقة كعالة بينما هم يمثلون قوة كامنة لو أُتيحت لهم الفرصة


وأضاف مغلي لـ” منصة ريف اليمن” أن المؤتمر الوطني للمتحدثين من الأشخاص ذوي الإعاقة يأتي سنويًا لإبراز قصص الأشخاص ذوي الإعاقة وتسليط الضوء على معاناتهم، مؤكدا أن معاقي الأرياف هم الأكثر تهميشا وحرمانا، ما يضطر أسرا كثيرة للانتقال من مناطقها بحثا عن بيئة مناسبة.

قادرون دائما

رئيس مؤسسة نهضة فكر، “حارث فايز”، يعتبر أن المجتمع ما يزال ينظر إلى الأشخاص ذوي الإعاقة كعالة، بينما هم يمثلون قوة كامنة لو أُتيحت لهم الفرصة، لافتا إلى أن المؤتمر جمع 386 متقدما، اختير منهم 8 متحدثين، حضر 7، فيما سجل للمؤتمر أكثر من 6000 شخص، حدد الحضور بـ600 بسبب سعة القاعة.

ولفت فايز إلى أن فعاليات المؤتمر تعكس إيمان المؤسسة برسالة الأشخاص ذوي الإعاقة ومسؤوليتها المجتمعية، وتهدف إلى إيصال أصواتهم إلى المجتمع اليمني والعربي والعالم،

ويشدد على أهمية إبراز دور الأشخاص ذوي الإعاقة ودمجهم في المجتمع، مشيرًا إلى أن نسبة الحضور الكبيرة تعكس وعي المجتمع بقضاياهم، لافتا إلى أن التمكين الاقتصادي وتوظيف المعاقين من قبل القطاعين الخاص والحكومي يمثل أبرز التحديات، داعيا المجتمع للوقوف إلى جانب هذه الشريحة.

أما الناشطة في قضايا حقوق الأشخاص ذوي الإعاقة “حياة الأشموري” فقالت إن المؤتمر يمثل رسالة واضحة للمجتمع مفادها: “نحن نبحث عن الفرص ونريد بيئة آمنة وداعمة لنكون فاعلين في المجتمع”.

وأشارت إلى التحديات الكبيرة التي تواجه المعاقين في الأرياف، مثل غياب المدارس وضعف الوعي المجتمعي، مطالبة الجهات المختصة بأن يكونوا صوتا لهم وتوفير الفرص: “تعلمنا من المدارس ومن الحياة، وتجاوزنا كل الصعوبات لنصل إلى ما نحن عليه اليوم، فكونوا معنا”.

وبحسب تقرير منظمة العفو الدولية 2019، لا تقل نسبة الذين يعانون من الإعاقات في اليمن عن أربعة ملايين نسمة، في وقت قدّرت فيه منظمة الصحة العالمية نسبتهم بنحو 15% من إجمالي عدد السكان في الدول النامية.

شارك الموضوع عبر: