لم تكن دواوين الأرياف يومًا مجرد مجالس عابرة، بل كانت قلب الحياة الاجتماعية، وساحة الحوار، ومنصة لحل الخلافات وتبادل الخبرات، يأتي إليها الأهالي حاملين معهم أخبار الحقول، وأحزان البيوت، وقصص الماضي وشيئاً من الحكايات والمواقف الطريفة، غير أنها اليوم باتت أشبه بغُرَف انتظار صامتة، بفعل انتشار الهواتف الذكية.
وتسبب انتشار الهواتف الذكية في الأرياف بتراجع المكانة الاجتماعية للدواوين، التي تحولت من مجالس تعج بالحياة والحيوية، إلى مجرد غُرَف لا تكاد تسمع فيها سوى صوت رنين إشعارات الرسائل، إذْ يجلس الناس على مقربة جسدية، لكن أرواحهم تتجول في عوالم افتراضية بعيدة للغاية، منشغلين بهواتفهم، قراءة ومشاهدة وتواصلاً، وأحيانا ألعاب.
يصف الناشط الإعلامي “عارف المليكي” هذا التغير بالمؤلم، ويقول: “أصبح حضورنا جسديًا فقط، أما الأرواح فقد اختطفتها الهواتف، لا أحد يصغي، ولا أحد يشارك، صرنا غرباء في المكان الذي جمعنا طويلاً”.
مواضيع مقترحة
الإذاعة.. حضور بالأرياف رغم طفرة تطور وسائل الإعلام
ديوان شيخ القرية.. سلطة اجتماعية تملأ غياب الدولة
البيضاء: أطفال يصنعون المرح من “مشقة الوديان”
ويضيف: “كنت أحرص على حضور الكثير من الفعاليات والمقايل في الدواوين، لكن الواقع اليوم مؤسف، فقد لعبت الجوالات دورًا كبيرا في تحويل دواويننا وجلساتنا العامة إلى غربة اجتماعية”. لافتا إلى أن “المتواجدين داخل ديوان واحد بعيدون جدًا عن بعضهم، نرى الشباب منذ لحظة دخولهم الديوان ينغمسون في هواتفهم، ليس للعلم أو الاطلاع، بل للعب ومتابعة المقاطع العشوائية”.
غربة اجتماعية
ووفقا لاستطلاع أجري عام 2021، قال نصف المستجيبين تقريبا إنهم يمضون من 5 إلى 6 ساعات يوميا على هواتفهم المحمولة، وكشفت البحوث أن 71% من مستخدمي هذه الهواتف ينامون بالفعل مع أجهزتهم، ونحو ثلث المستخدمين لا يغلقون هواتفهم أبدا.
في ذات السياق، يقول “عصمت طارش”، وهو ناشط اجتماعي: “في معظم الأيام، خلال تواجدنا في القرية، نلتقي في ديوان أحدنا، من بعد الظهر وحتى قبيل المغرب، وهو مشهدٌ يبدو في ظاهره جميلًا؛ وكأنه كما كان مُعتادًا قبل أكثر من عقد أو عقدين من الزمن”.
كانت “الدواوين” مجالس حيوية للنقاش وتبادل الآراء وحل المشكلات المجتمعية، لكنها تحوّلت إلى أماكن يغشاها الصمت بعد دقائق قليلة من تبادل أطراف الكلام
ويستدرك: “لكن الحقيقة مختلفة، فرغم تواجدنا أربعاً أو خمس ساعات في الديوان، إلا أن نقاشاتنا الجماعية لا تتجاوز الساعة الواحدة، وغالبا أقل، أما بقية الوقت، فكلّ واحد منّا غارق في هاتفه وعالمه الافتراضي، وهذا أصبح مألوفًا، مجتمعين جسديًا، لكن متباعدين ذهنيا وروحا، وقد تجد البعض يتناقشون في جروب واتساب وهم بمكان واحد”.
ويتابع: “كانت الدواوين مجالس حيوية للنقاش وتبادل الآراء وحل المشكلات المجتمعية، يبوح فيها كل فرد بما يثقله من هموم وآلام، فتتكوّن روابط إنسانية ومجتمعية عميقة، أما اليوم، للأسف، تحوّلت تلك الدواوين إلى أماكن يغشاها الصمت بعد دقائق قليلة من تبادل أطراف الكلام، وينسحب كل فرد إلى شاشة هاتفه، وينغمس في عالمه الخاص، وكأنّه غير موجود ولا ينتبه له إلا وقت مغادرته”.
وأشار طارش إلى أن أكثر الناس شعورًا بالأسف والحسرة على فقدان الدواوين قيمتها الاجتماعية، هم كبار السن، الذين يدركونها جيداً، ونلحظ انزعاجهم وامتعاضهم إذا تواجدوا في ديوان معظم من فيهم منهمكون فوق جوالاتهم.
وأصبحت الهواتف الذكية عاملاً دائمًا في حياتنا اليومية، وحتى الآن ربما أنت تقرأ هذا التقرير على الهاتف المحمول، ووفق موقع “ستاتيستا” (Statista)، يوجد أكثر من 6.92 مليارات مستخدم للهواتف الذكية في أرجاء المعمورة حاليا، ما يعني أن 86.2% من سكان العالم يمتلكون هاتفا ذكيا.

جسد بلا روح
الصحفي والباحث الاجتماعي “تيسير السامعي”، قال إن الدواوين في الأرياف كانت إحدى وسائل الاتصال الاجتماعي التي تجمع الناس، تجعلهم يلتقون ويناقشون كثيراً من القضايا، وكانت الكثير من المشاكل تحل دخل هذه الدواوين، لكنها اليوم فقدت قيمتها، وتحولت إلى جسد بدون روح، يلتقى فيها الناس، لكن لقاءً جسديًا فقط، لأن الحواس تنصرف إلى التلفونات الذكية”.
“لعبت الدواوين القبلية في اليمن دوراً بالغ الأهمية في تنمية الوعي الوطني ومناقشة القضايا العامة خلال النصف الأول من القرن العشرين”
وأوضح السامعي في حديثه لمنصة ريف اليمن أن النقاشات والحديث كانت في الدواويين تظل إلى نهاية المجلس واللقاء، ويخرج الناس وهم في حالة من الإشباع الروحي والوجداني، لكن الآن لا تكاد تمر ساعة واحدة حتى يُخيم الصمت وينتهى الكلام، فكل واحد ينصرف إلى جواله.
وتصف دراسة “الديوان والقصر” أن الديوان “كان يشكل منتدى للتداول، وقد لعبت الدواوين القبلية دوراً بالغ الأهمية في تنمية الوعي الوطني، ومناقشة القضايا العامة، خلال النصف الأول من القرن العشرين”.
بدوره، يقول الدكتور “أنور الزبيري”، أستاذ علم النفس الاجتماعي في جامعة تعز، إن الديوان هو أفضل ما يوجد في المنزل الريفي، وأكبر ما فيه، وفيه يتم استقبال الزوار، وتتم فيه الاجتماعات لمناقشة القضايا المتجددة.
توظيف إيجابي
وأضاف الزبيري لمنصة ريف اليمن أن هناك نوعاً من الإدمان لدى حاملي الهواتف الذكية، كل فرد ينشغل بهاتفه في الدواوين ويبتعد عمّن حوله، فينتج حرمان المتواجدين من الاستفادة من اللقاء الجماعي، وتتلاشى الأفكار بسبب انشغال كل شخص بهاتفه وتواصله مع شخصيات في أماكن متباعدة في العالم، مشيرًا إلى أن هذا “أضعف دور دواوين القرية الأثري الذي تتوارثه الأجيال، وتمارس طقوسها الاجتماعية فيه”.
“إحياء دور الدواوين لا يعني مقاطعة الهواتف داخلها، لكن المشكلة في طريقة استخدامها، في حين يمكن توظيفها في تفعيل وتعزيز الدور الاجتماعي”
وبخصوص التوازن بين التكنولوجيا الحديثة والحفاظ على الموروث الاجتماعي، أشار الدكتور الزبيري إلى أن ذلك ممكن من خلال عمل ضوابط في الدواوين لاستخدام الهواتف، باستثناء حالات الاتصال الطارئة، وعمل ما يُشبه العُرف الملزم التقيد به، مؤكدًا أنه بالإمكان تخصيص أوقات خالية من الهواتف في المجالس والدواوين.
وأوضح أن إحياء دور الدواوين، لا يعني مقاطعة الهواتف الذكية داخلها بشكل تام، ثمّ إن المشكلة أساسًا ليست في الجوالات، بل في طريقة استخدامها؛ حيث يمكن توظيفها في تفعيل وتعزيز الدور الاجتماعي للدواوين، وكذلك في توثيق اللقاءات الثرية والإيجابية على هيئة فيديوهات ونشر ما يناسب منها في وسائل التواصل الاجتماعي، والاحتفاظ بالأخرى كأرشيف.
وتشير دراسات عدة إلى أن استخدام الهاتف بشكل مفرط يؤدي إلى تغييرات في العقل، لا سيما في عمليتي التركيز والانتباه. ووفقا لتقرير نشرته منصة “بي بي سي” (BBC) البريطانية، فإن الاستخدام المفرط للهواتف المحمولة يؤدي إلى تقليل القدرة على التركيز والانتباه، ويزيد من مستويات الإجهاد والقلق.
*صورة الغلاف مولدة بالذكاء الاصطناعي