تقاليد متوارثة تُحرم أطفال الريف من الرضاعة الطبيعية

هناك إعتقاد سائد أن رضاعة الأطفال في الأيام الأولى بعد الولادة "مضر"

تقاليد متوارثة تُحرم أطفال الريف من الرضاعة الطبيعية

هناك إعتقاد سائد أن رضاعة الأطفال في الأيام الأولى بعد الولادة "مضر"

في مناطق ريفية يمنية واسعة، ما تزال المعتقدات الشعبية والممارسات التقليدية تتحكم في قرارات الأمهات بشأن الرضاعة الطبيعية، مهددة صحة المواليد بحرمانهم من أهم مصدر غذائي خلال أيامهم الأولى، وسط غياب تدخل فعال من الجهات الصحية في التوعية وتصحيح هذه المفاهيم.

ورغم تأكيد الدراسات الطبية أن الرضاعة الطبيعية -وخاصة خلال الأيام الاولى- تعد خط الدفاع الأول ضد الأمراض، إلا أن شريحة واسعة من النساء في الأرياف يُمنعن من إرضاع أطفالهن فور الولادة ليس بسبب ندرة الحليب، بل نتيجة الموروثات الخاطئة التي تعتبره “ضارًا” و”غير نظيف”.

“انتظار” أم لخمسة أطفال من محافظة إب، تحكي تجربتها مع هذه الممارسة الخاطئة، وتؤكد أنها أُجبرت على عصر ثدييها والتخلص من اللبأ، وإعطاء مولودها خليطا من الماء والسكر لمدة ثلاثة أيام، وهي ممارسة تتكرر في مناطق ريفية تفتقر للخدمات الطبية، ويهيمن دور القابلات التقليديات فيها على الولادة والرعاية اللاحقة.


   مواضيع مقترحة

تقول انتظار لمنصة ريف اليمن: “أخبرتني عمتي ومعها القابلة أن اللبن الأول غير نظيف، ولازم يخرج كله للأرض قبل ما أرضع الطفل”، وبالفعل تم إقناعها بعصر ثديها يوميا لإخراج “الصديد”، ليس هذا فحسب بل تم تحذيرها أيضا من أن الحليب لن ينزل إذا لم يُعصر بالكامل خلال الأيام الثلاثة الأولى.

تغذية بديلة غير آمنة

هذه الممارسات ليست فردية، بل تتكرر في العديد من القرى، حيث تغيب الكوادر الطبية المؤهلة، وتُهيمن القابلات التقليديات على مشهد الولادة ورعاية ما بعد الولادة، وعلى الرغم من أن حليب الأم خلال الأيام الأولى يحتوي على مضادات حيوية طبيعية تعزز مناعة الطفل وتقي من الأمراض إلا أن الأطفال يحرمون منه.

مشكلة الرضاعة الطبيعية في الأرياف لا تتوقف عند رفض اللبأ، بل تمتد إلى عدم الثقة بكمية الحليب الذي تنتجه الأم، والاعتقاد بعدم كفايته لإشباع الطفل، كما حدث مع “صبيّة”، وهي فتاة من ريف تعز، إذ تقول: “كانت طفلتي تبكي كثيرًا بعد الولادة، مما دفعنا إلى الجزم بأن الحليب خفيف ولا يسد جوع الرضيعة”.


على الرغم من أن حليب الأم خلال الأيام الأولى يحتوي على مضادات حيوية طبيعية تعزز مناعة الطفل وتقي من الأمراض إلا أن الأطفال يحرمون منه


وتضيف صبية لمنصة ريف اليمن: “بدأت الجارات يرضعن الطفلة عندما يأتين لزيارتنا، وأحيانا نعطيها حليباً مخففاً بالماء والعسل، لأنهن قلن إن حليبي غير كاف”. هذا التصرف وإن كان بنية المساعدة، يتم خارج أي إشراف طبي؛ مما يرفع احتمالات انتقال العدوى، خاصة في ظل ضعف النظافة، أو عدم التأكد من صحة المرضعات البديلات.

ويعد لبن الأم الغذاء المثالي للرضع، فهو مأمون ونظيف ويحتوي على أجسام مضادة تساعد في حمايتهم من العديد من أمراض الطفولة الشائعة، وتؤكد الدكتورة “نهى العريقي”، على أهمية الرضاعة الطبيعة للطفل.

وتقول العريقي لمنصة ريف اليمن: “هذه الممارسات التي تتم في بعض الأرياف، تمثل بيئة خصبة لانتقال الفيروسات، مثل التهاب الكبد الوبائي، والجراثيم والبكتيريا، سواء عبر الحليب، أو الأدوات المستخدمة، أو قلة نظافة الصدر”.

وتضيف: “حليب الأم يحتوي على نسب معينة مناسبة للأطفال وجهازهم الهضمي، من ناحية البروتينات والدهون والمعادن، وهو مالم يتوفر في حليب الماعز والبقر الذي لا يصلح للطفل، بل يؤثر عليه، ويسبب له سوء هضم وتحسساً وتهيجاً في جهازه الهضمي”.

غياب التوعية

في ظل هذا الواقع، يبقى غياب الجهات الصحية الرسمية أحد العوامل المؤثرة في استمرار هذه العادات، فضعف البرامج التوعوية وندرة الحملات الطبية في الأرياف يجعل النساء عرضة للمفاهيم المغلوطة، ويفتح الباب أمام تداول وصفات شعبية، وممارسات ضارة دون حسيب أو رقيب.


حليب الأم يحتوي على نسب معينة مناسبة للأطفال وجهازهم الهضمي، من ناحية البروتينات والدهون والمعادن، وهو مالم يتوفر في حليب الماعز والأبقار


مسؤول الإعلام الصحي في مكتب الصحة العامة بمحافظة تعز “تيسير السامعي”، أكد أن الرضاعة الطبيعية حق أساسي للطفل، وفوائدها تمتد للأم والأسرة، مشددًا على ضرورة بدئها من الدقائق الأولى بعد الولادة واستمرارها لعامين كاملين، وفق التوصيات الطبية والآية القرآنية الكريمة.

وأشار السامعي إلى أن وزارة الصحة تنفذ حملات توعية ميدانية وإذاعية، وتوزع منشورات، وتوجه الأطباء بعدم وصف الحليب الصناعي إلا عند الضرورة، بهدف تعزيز ثقافة الرضاعة الطبيعية، وحماية حق الطفل في الحصول على أفضل تغذية ممكنة، موضحا أن الطفل خلال الأشهر الستة الأولى يجب أن يعتمد كليًا على حليب الأم دون أي غذاء أو سوائل إضافية، على أن تبدأ من بعد الشهر السادس إدخال أطعمة خفيفة بجانب الرضاعة.

مؤشرات تحسن

ورغم انتشار هذه الممارسات، تظهر بعض القرى مؤشرات لتحسن السلوكيات المرتبطة بالرضاعة الطبيعية، وبحسب “سميرة الكوبيش”، من منطقة “قدس” في ريف تعز، فإن استخدام الماء والسكر لم يعد شائعًا كما في السابق.

وتشير الكوبيش خلال حديثها لمنصة ريف اليمن، إلى أن النساء في قريتها يبدأن بالرضاعة فور الولادة، وإن كانت بعض الأسر لا تزال تلجأ إلى ممارسات بديلة؛ مثل تذويب التمر في الماء وتقديمه للرضيع في حال تعبت الأم.

لكن مع ذلك، لا تزال مشروبات مثل “ماء الغريب” مستخدمة في بعض المناطق، إلى جانب أعشاب مثل الشمر واليانسون، والتي تُقدَّم بكميات كبيرة في زجاجات الرضاعة، ما يقلل من طلب الرضيع للثدي، ويؤثر سلبًا على استمرار الإرضاع الطبيعي.


يجب أن يعتمد الطفل كليا خلال الأشهر الستة الأولى على حليب الأم دون أي غذاء أو سوائل إضافية، على أن تبدأ  إدخال أطعمة خفيفة بجانب الرضاعة


القابلة “ندى ناجي”، في قرية بني مناوس والمناطق المجاورة بمحافظة حجة، تقدم خدمات توعوية وتثقيفية بشكل تطوعي للأمهات الجدد، وتشير ندى إلى أن كثيرًا من النساء ما زلن يعتقدن أن الحليب الصناعي أو حليب الأغنام والبقر أفضل من حليب الأم، خاصة إذا كان الطفل يبكي كثيرًا.

تضيف ندى لمنصة ريف اليمن: “عند مغادرتي مكان الولادة بعد أن أكون قد وعّيت الأم بأهمية الرضاعة إلا أنه يمكن أن تقنع الجدة أو العمة الأم بالتوقف عن الإرضاع الطبيعي، واللجوء للحليب الصناعي أو أي بديل آخر” مضيفة أن الزواج المبكر للبنات يزيد المشكلة، إذ إن الفتاة في سن 15 أو 16 تكون غير مهيأة نفسيًا وجسديًا لرعاية مولود.

ورغم التحديات، تشير إلى وجود استجابة إيجابية من بعض الأمهات، خاصة ممن تكررت معهن التجربة. وتضيف: “حين تلاحظ الأم أن طفلها تحسّن بعد الرضاعة الطبيعية، تصرّ على مواصلتها وتبدأ تنقل تجربتها لجاراتها”.

وفي الوقت الذي يُجمع فيه مختصون في صحة الطفل أن التدخل المبكر في توعية القابلات المجتمعيات، وتنظيم برامج إرشادية للأمهات، يمكن أن يُحدث تحولا في النظرة تجاه الرضاعة الطبيعية، ويُقلل من المخاطر الصحية التي تحيط بالمواليد الجدد، حذر السامعي من المفاهيم الخاطئة التي تمنع بعض الأمهات من الرضاعة، مثل الخوف من ترهل الصدر أو الاعتماد على الحليب الصناعي.

وبحسب اليونيسيف يبلغ معدل البدء المبكر في الرضاعة الطبيعية في غضون الساعات الأولى 40% فقط، مشيرة إلى أن المعدل الحالي للرضاعة الطبيعية الحصرية في اليمن أقل بكثير من هدف الجمعية العمومية لمنظمة الصحة العالمية المتمثل في 50% بحلول عام 2025 والهدف العالمي المتمثل في 70% بحلول عام 2030.

شارك الموضوع عبر:

الكاتب

    مواضيع مقترحة: