لم يعد تراجع الإنتاج الزراعي في الريف اليمني مرتبطا بعوامل موسمية أو نقص الأمطار فقط، بل أصبح انعكاسا مباشرا لتدهور التربة نفسها وفقدانها لقدرتها على العطاء، فالتربة التي شكّلت لعقود أساس الزراعة والأمن الغذائي، تواجه اليوم ضغوطا متراكمة جعلت مساحات واسعة أقل خصوبة وأقل إنتاجا.
بحسب تقرير الأمم المتحدة وبرنامج الأمم المتحدة الإنمائي تدهورت نحو 17.5% من مساحة الأراضي الزراعية خلال السنوات الأخيرة، فيما ارتفعت مساحة الأراضي منخفضة الإنتاجية إلى نحو 17% من إجمالي المساحة الصالحة للزراعة، ما يعكس تحولا ملحوظا في خصائص التربة وجودتها وقدرتها على الإنتاج.(الرابط)
مواضيع مقترحة
- كيف يحمي المزارعون التربة الزراعية من الانجراف؟
- المزارعون اليمنيون بين هجر الأراضي وتحديات شح المياه
- المواد العضوية تعزز خصوبة التربة وجودة المحاصيل
عوامل متداخلة
تشير المعطيات الميدانية والرسمية إلى أن التربة الزراعية في اليمن تعاني من مجموعة متداخلة من العوامل؛ أبرزها الانجراف، الجفاف، التصحر، الاستخدام المكثف للمبيدات والأسمدة الكيماوية.
بالإضافة لغياب برامج حماية التربة والإدارة المستدامة، كل هذه العوامل لم تؤد فقط إلى انخفاض كمية الإنتاج، بل غيرت طبيعة التربة نفسها، فأصبحت أقل قدرة على الاحتفاظ بالمياه والعناصر الغذائية.
في منطقة حلحلة بمديرية خدير جنوب تعز، يقف المزارع محمد عبده أمين أمام جزء من أرضه التي كانت تعد من أكثر الحقول خصوبة في المنطقة، ويقول لـ “منصة ريف اليمن” وهو يشير إلى التربة المتشققة:” هذه الأرض كانت تطعمنا وتسند حياتنا اليوم صارت مثل التراب الميت، لا ترد علينا بأي خير.”
بدأت الحكاية عندما توجه، محمد قبل سنوات مثل كثير من المزارعين إلى زراعة القات نظرا لجدواه الاقتصادية مقارنة بمحاصيل الذرة والحبوب، دفعه بحثه عن إنتاج أسرع لاستخدام كميات كبيرة من المبيدات والمواد الكيماوية يضيف: “كنا نرش السموم كل أسبوع تقريبا القات يحتاج حماية، ما كنا نعرف إننا نقتل التربة بأيدينا”.
الحضرمي:هناك مناطق زراعية فقدت أكثر من 50% من خصوبتها خلال آخر 15 سنة، وما يحدث أزمة تهدد مستقبل الزراعة الريفية.
ويضيف: “مع الوقت بدأت خصائص التربة تتغير، وظهر ضعف واضح في الإنتاج، ثم تشكلت بقع واسعة لم تعد تنبت شيئا، مع مرور السنوات اتسعت تلك البقع، وتحولت أجزاء من الحقل إلى تربة صلبة فاقدة للحياة.
رغم محاولاته تحسين الوضع بإضافة السماد العضوي ومنح الأرض فترات راحة، يؤكد محمد أن آثار التدهور المتراكم لا تُعالج بسهولة.
تشير بيانات رسمية إلى أن الاعتماد المتزايد على المبيدات والأسمدة الكيميائية ارتفع خلال السنوات الأخيرة، ما يعكس اعتمادا متزايدا على مدخلات زراعية لها آثار طويلة المدى ما يفاقم مخاطر تدهور التربة وتسممها على المدى البعيد.
تدهور حاد
يصف الباحث الزراعي المتخصص في علوم التربة والمياه د. فهد الحضرمي الوضع بأنه تدهور حاد في البنية الفيزيائية والحيوية للتربة، ويقول لـ “منصة ريف اليمن: “لدينا مناطق زراعية فقدت أكثر من 50% من خصوبتها خلال آخر 15 سنة، ما يحدث ليس تراجعًا طبيعيًا، بل أزمة تهدد مستقبل الزراعة الريفية بالكامل.”
يعزو الحضرمي الذي يعمل في كلية الزراعة بجامعة صنعاء، أسباب الأزمة إلى تراكم عوامل عدة كغياب برامج حماية التربة وتنظيم استخدام المبيدات، وتراجع مشاريع الري والصرف، وممارسات زراعية خاطئة أدت إلى تحلل بنية التربة وفقدانها لمكوناتها العضوية.
لافتا أن الحلول تتطلب رؤية دولة ومبادرات محلية متزامنة، وإلا فإن الخسائر ستكبر لتشمل الأمن الغذائي وسلامة المجتمعات الريفية.
من جانبه، يرى المهندس الزراعي مروان العريقي أن التدهور لا يختزل في عوامل محلية فقط، بل يرتبط أيضا بتأثيرات مناخية فاقمت المشكلة، حيث أسهم ارتفاع درجات الحرارة وتغيّر نمط هطول الأمطار في زيادة جفاف التربة وتقليل قدرتها على الاحتفاظ بالرطوبة، ما جعل جهود الإصلاح أكثر صعوبة وكلفة.
في محافظات تعز ذمار لحج والبيضاء، تتشابه روايات المزارعين حول تراجع إنتاج أراضيهم، الحاج عبدالله الفضيل، مزارع منذ 35 عاما في مديرية الحد بمحافظة لحج، قال: “الأرض كانت تعطينا بدون توقف اليوم صارت ترفض البذر التربة ماتت من كثرة المبيدات وقلة المطر، وكل سنة نخسر جزء جديد من أرضنا.”
لا تقتصر هذه الخسارة على المحصول الزراعي، بل تمتد إلى استقرار الأسر الريفية ومصادر دخلها، حيث تشير بيانات وزارة الزراعة 2023 إلى أن اتساع رقعة الأراضي منخفضة الإنتاجية انعكس بشكل مباشر على دخل المزارعين والأمن الغذائي المحلي.
خطر المبيدات
يرتبط تدهور التربة، وفق مختصين، بالتغيرات المناخية المتسارعة التي تشهدها البلاد، بما في ذلك ارتفاع درجات الحرارة، اضطراب الأمطار، وطول فترات الجفاف، هذه العوامل أدت إلى تصلب الطبقات السطحية للتربة وفقدانها للمعادن المغذية، ما جعلها أقل استجابة للزراعة وأكثر عرضة للتدهور.
تشير بيانات وزارة الزراعة 2023 إلى أن اتساع رقعة الأراضي منخفضة الإنتاجية انعكس بشكل مباشر على دخل المزارعين
يرى خبير الموارد الطبيعية عبد الرحمن القدسي أن إنقاذ التربة لا يتطلب حلولا معقدة بقدر ما يحتاج إلى إرادة وتخطيط، مشددا على ضرورة الحد من الاستخدام العشوائي للمبيدات، والتوسع في الأسمدة العضوية التي تعيد البنية الحيوية للتربة.
كما يؤكد على أهمية دعم المزارعين بالمعرفة والموارد للانتقال إلى ممارسات زراعية مستدامة تتلاءم مع المناخ، وإحياء تقنيات المصاطب الزراعية القديمة يساعد على تقليل الانجراف وحماية الطبقات السطحية، فيما تساهم تقنيات حصاد مياه الأمطار والري المناسب في استعادة رطوبة التربة ومرونتها.
وتؤكد تقارير وزارة الزراعة والمنظمات المحلية والدولية الحاجة الملحة إلى هذه التدخلات لحماية ما تبقى من الأراضي الصالحة ووقف تدهور المزيد من المساحات، حفاظا على المصدر الأساسي للأمن الغذائي في الأرياف.

