في أحد فصول الشتاء الجافة أواخر سبعينيات القرن الماضي، لم يكن أمام الفتى محمد نصر الفرحاني من بدٍّ من الخروج قبل الفجر مع شقيقه لجلب لترات قليلة من المياه من بئر القرية المجاورة. كانت كمية المياه تلك بالكاد تسد احتياجات أسرته اليومية، في منطقة جبلية تعاني شح المياه منذ زمن طويل.
من قريته المحجر، إلى القرية الأخرى منوبة، كان محمد وأقرانه يتكبدون يومياً عناء السير في الظلام الدامس نحو 700 متر. وفي عائلات عديدة أخرى في معظم أرياف اليمن، يقع عبء جلب المياه إلى المنزل على عاتق فتيات الأسرة.
ليس السير لمسافات طويلة وفي طرقات وعرة في ظلمة الفجر العناء الوحيد، إذ تنتشر بعض الحيوانات الضارية أحياناً على الدروب المؤدية إلى الآبار مما يزيد من خطورة تلك الرحلات اليومية المبكرة. دفع ذلك الواقع الفرحاني كي يفكر جدياً في إنشاء سدٍ أو حاجز مائي لتجميع الماء في قريته.
مواضيع مقترحة
- السقاية في تعز: حصاد مياه الأمطار لفصل الشتاء
- ماذا لو جفّ آخر بئر مياه في اليمن؟
- شحة المياه بالشتاء يضاعف معاناة سكان المناطق الجبلية
“كانت فكرتي إنشاء سد كبير يستفيد منه أكبر عدد من الناس، لكن موقع القرية في وسط الجبل، والتضاريس الصعبة حرمتني هذا الحلم. فاضطررت لإنشاء بركة. والبركة جيدة أيضاً؛ إذ كانت في بعض السنوات المطيرة تكفي من الموسم إلى الموسم”، يوضح الفرحاني الذي يبلغ من العمر اليوم 63 عاماً.
توفير المياه بأقل تكلفة
في أكمة تعلو القرية بعشرات الأمتار، وجد الفرحاني ضالته لإنشاء بركة ماء. رغم وعورة المكان وصلابة الصخور، بدأ بعزيمته ومعاول بسيطة، يعاونه بعض أقاربه، حتى شق طريقاً نحو حلمه الصغير لتوفير مصدر مياه ثابت يكفيه وأسرته أطول مدة ممكنة.
يروي الفرحاني لـ”منصة ريف اليمن” كيف أرهقه إنشاء البركة جسدياً وذهنياً؛ إذ كان يحاول الجمع بين الدراسة والحفر، فيقول: “كنت أذهب للمدرسة صباحاً، ثم أعود وأبدأ الحفر من بعد الظهيرة حتى المغرب، وأذاكر دروسي حتى التاسعة مساء، ثم أصحوا الساعة الثانية قبل الفجر لانتشال التراب خارج الحفرة”.

يؤكد المهندس فؤاد الصيادي، استشاري بناء القدرة على التكيف وتحسين سبل العيش، على أهمية مثل هذه البرك، كونها توفر المياه بأقل تكلفة، وتخفض فاتورة شراء المياه على الأسر، كما أنها تقلل الوقت والجهد التي تبذله النساء والفتيات لجلب المياه من مناطق بعيدة.
ويلفت الصيادي، في حديثه لـ”منصة ريف اليمن” إلى أن لتغيرات المناخ سمات عديدة، أبرزها: عدم انتظام الهطولات المطرية، وبالتالي فإن خزن مياه الأمطار من أوقات الوفرة إلى أوقات الندرة يعزز الأمن المائي، ويعزز الصمود المناخي للأسر الريفية.
يشكل سكان ريف اليمن نسبة كبيرة من المجتمع اليمني تصل إلى نحو 60% من إجمالي السكان بحسب إحصائيات البنك الدولي لعام 2024. ويعاني هؤلاء في الحصول على المياه الصالحة للشرب والخدمات الصحية المرتبطة بها؛ لهذا تعد أزمات المياه هذه من أبرز أسباب ابتكار وسائل تخزينها.
بحسب آخر إحصائية رسمية عام 2004، بلغ تعداد سكان مديرية شرعب الرونة 146,650 نسمةً، بنسبة تقارب 0.7% من إجمالي سكان اليمن البالغ حينها 19,685,161 نسمة.
ويورد موقعا بيانات الأمم المتحدة وبيانات البنك الدولي أن مجموع سكان اليمن للعام 2024 بلغ نحو 40,583,164. وبسبب غياب الأرقام الرسمية ونسب النمو السكاني وما تسببت به الأزمة اليمنية من تغييرات ديموغرافية، فإنه من الصعب الوصول إلى أرقام أو حتى تقديرات دقيقة لعدد سكان شرعب الرونة.
كغيرها من مناطق اليمن، تشهد شرعب الرونة انخفاضاً في الهطولات المطرية الموسمية؛ هذا الواقع جعل “المجلس النرويجي للاجئين” يحذّر من تفاقم مشكلة وصول السكان للمياه النظيفة في الأرياف والمدن اليمنية عموماً.
وتُعدّ اليمن من أكثر دول العالم معاناة من الفقر المائي؛ إذ لا يتجاوز متوسط نصيب الفرد من الموارد المائية المتجددة 80 متراً مكعباً سنوياً، وهي أقل بكثير من العتبة العالمية البالغة 1,000 متر مكعب التي تُعرّف الإجهاد المائي بحسب “برنامج الأمم المتحدة الإنمائي (UNDP)”.
وبحسب “اليونيسف“، هنالك أكثر من 16 مليون شخص -بما في ذلك 8.47 مليون طفل- في اليمن بحاجة ماسة إلى المساعدة في مجال المياه والصرف الصحي والنظافة الصحية.

توضح عدة تقارير أصدرتها مؤسسات دولية أن التغير المناخي وتذبذب معدلات الأمطار ساهما في زيادة موجات الجفاف، ما أثر على الزراعة التي تشكّل مصدر الدخل الرئيس للسكان الريفيين، ورفع من معاناة الأسر في الحصول على مياه آمنة للشرب والاستخدام اليومي.
كان متوسط هطول الأمطار سنوياً في شرعب الرونة بين 200 – 450 ملغ، بين عامي 1983، و2003، وفقاً للهيئة العامة للبحوث والإرشاد الزراعي. ولكن وبسبب غياب البيانات الرسمية وتعطل الآليات الإدارية المضبوطة للمتابعة والتسجيل، فلا بدّ من الاعتماد على التقارير الدولية التي تدرس تزايد فترات الجفاف في الأرياف اليمنية، فضلاً عن اللجوء إلى ملاحظة السكان المحليين والمزارعين الذين تشهد طرق عيشهم وعملهم تغييرات كبيرة جراء تغير الظواهر المناخية عبر السنين.
وبسبب ما يشهده الريف اليمني عموماً، وأرياف تعز خصوصاً، من تغيرات وفترات جفاف، تأتي تجربة إنشاء البرك في شرعب الرونة كمثال على الاستجابة المحلية للمشكلة ومحاولة إيجاد حلول لها.
بنية البركة
تتميز برك منطقة شرعب الرونة بالشكل والخصائص. تتكون البركة من أكثر من حفرة، أبرزها الحفرة الرئيسية التي تتجمع فيها المياه، وحفرة أخرى خارجها يصل عمقها لنحو 1.5 متر، تسمى “الجَبَّانة”. يتمثل غرض هذه الأخيرة بترشيح المياه من الأتربة، حيث تصل مياه الأمطار إليها، وعند امتلائها تبدأ الدخول إلى البركة من فتحة يصل قطرها إلى 10 سم.
وبخلاف كثير من البرك المفتوحة في مناطق يمنية أخرى، تتميّز برك شرعب الرونة بكونها مسقوفة بالكامل. يُغطى سطح البرك بسقف حجري وطبقة إسمنتية تمنع الوصول المباشر إلى المياه، ولا يمكن الدخول إلى البرك إلا عبر أبواب محكمة الإغلاق؛ ما يقلّل من الأخطار المرتبطة بها، خصوصاً حوادث الغرق التي تطال الأطفال والنساء في القرى التي تفتقر إلى إجراءات السلامة. وقد جعل منها هذا التصميم المغلق منشآت أكثر أماناً، تؤدي وظيفتها في تجميع مياه الأمطار دون أن تتحوّل إلى مصدر تهديد للسكان.
تُعدّ اليمن من أكثر دول العالم معاناة من الفقر المائي إذ لا يتجاوز متوسط نصيب الفرد من الموارد المائية المتجددة 80 متراً مكعباً سنوياً
وعند الدخول إلى البركة المسقوفة ينذهل الناظر إلى الأعلى من جمال العقود المنتظمة، المبنية على ارتفاع يتجاوز سبعة أمتار من قاع البركة.
استغرق حفر وبناء البركة التي قرر الفرحاني تشييدها نحو ثلاثة أعوام. انتهى الفرحاني من العمل في ديسمبر/كانون الأول عام 1982، بحسب التاريخ الهجري المسجل على الأسمنت في سطح البركة.
تكاليف باهظة
يكلف إنشاء البرك مبالغ باهظة، بحسب عبدالله أحمد الذي قال إن بركته التي أنشأها قبل 20 عاماً كلفته قرابة ستة ملايين ريال، أي ما كان يعادل حينها نحو 30 ألف دولار أمريكي. تتسع بركة أحمد كحد أقصى لنحو 60 متراً مكعباً من المياه.
ويُوضح المهندس الإنشائي أنس الفرحاني أن تكاليف إنشاء البرك تختلف باختلاف المنطقة وطبيعة التربة والمواد المستخدمة في بنائها. بعض البرك تُشيَّد مثلاً في أراضٍ صخرية تتطلب جهداً ووقتاً أطول في الحفر، بينما يمكن إنشاء برك أخرى في مناطق طينية يسهل تشكيلها، ولكنها تحتاج أيضاً إلى عزل جيد لمنع تسرب المياه.
وهذا بالضبط ما حصل مع أحمد، فهو أنشأ بركته في بقعة سهلة الحفر؛ ما جعلها تتطلب تدعيماً أقوى من غيرها نظراً للتضاريس المحيطة بها.
غالباً ما يتجنب الأهالي في شرعب الرونة استخدام الآليات الثقيلة ويعتمدون على جهودهم الذاتية في الحفر والنقل والبناء لتقليل النفقات؛ ما يجعل هذه المشاريع الشعبية ممكنة نسبياً رغم الوضع الاقتصادي السيئ.
لا يملك الفرحاني رقماً دقيقاً لتكاليف إنشاء بركته، التي تُسمى حالياً “بركة نصر” نسبة لوالده، إذ إن الظروف الاقتصادية جعلته يقوم بالحفر بنفسه على مدار عام كامل قبل البدء ببنائها. وقديماً، كان غالبية أبناء القرية يعملون في البناء وتكسير الأحجار والنجارة، لذلك تطوع العديد منهم لمساعدته بنسب متفاوتة.
تغير ملموس
عقب الاستفادة التي لمسها معظم سكان القرية من بركة الفرحاني، أصبح هناك 13 بركة ماء بحلول عام 2005 في المحجر والقرى المحيطة بها. غير أن هذه البرك لم تكن صالحة للشرب بسبب اختلاط مياهها بالأتربة، فاقتصر استخدامها على سقاية الزرع وشرب الماشية والاحتياجات المنزلية البسيطة.

هذا النقص دفع الأهالي إلى البحث عن بديل أكثر أماناً وأقل تكلفة، فأنشأ البعض الآخر من سكان المنطقة خزانات أرضية داخل منازلهم. تعمل هذه الخزانات على تجميع مياه الأمطار النقية النازلة من أسطح المنازل، بحسب حديث ناجي أحمد، الذي يعمل مقاولاً، وقام بإنشاء العشرات منها.
محمد سعيد، أحد أبناء المنطقة، يذكر أنه استفاد من وجود البرك من جانب آخر، إذ إن قيام بعض أصحابها بمنع السكان من الاستفادة منها خلال فترة الجفاف دفعه لإنشاء خزان أرضي كبير يقارب حجم البرك، يقول ضاحكاً: “هناك في الحياة ملهمون سلبيون”.
مخاطر ومميزات
من الناحية البيئية، يرى المهندس الصيادي أن البرك تقلل الضغط على المياه الجوفية، وتقلل أضرار السيول على المناطق السفلى من خلال استيعاب جزء من مياه الأمطار، وتقليل كمية السيل.
لكن ما يُميز الخزانات الأرضية عن البرك أنها مبنية بالإسمنت المسلح بالحديد، في حين أن البرك معرضة للتشققات بشكل كبير بسبب جذور الأشجار والانزلاقات؛ مما يجعلها بحاجة لصيانة منتظمة.
الصيادي: البرك تقلل الضغط على المياه الجوفية، وتقلل أضرار السيول على المناطق السفلى من خلال استيعاب جزء من مياه الأمطار
وبالطبع للخزانات مشاكلها أيضاً. يوضح الصيادي أنه “مع مرور الزمن تضعف خاصية اللصق والتماسك في المادة الإسمنتية ولا بد من تجديدها”. يجعل هذا الأمر من الخزانات عرضة للتشقق وخصوصاً عند التقاء الأرضية مع الجدران، وأيضاً زوايا الخزان. ويقترح الصيادي تطبيق شبك حديدي في نقاط الالتقاء قبل أعمال التلابيس، واستخدام مادة تسمى “سيكا” تخلط بالمؤنة الإسمنتية، وتحسن من حفظ المياه، مشدداً على أهمية التنظيف السنوي للرسوبيات داخل البرك والخزانات.
يمكن لأشكال الاستجابة التي أقدم عليها أهالي شرعب الرونة، والتي تمثلت بإنشاء تلك البرك والخزانات بهدف حفظ مياه الأمطار، أن تكون مثالاً على التعامل مع الظروف المناخية القاسية. لقد دفع الجفاف وتناقص هطول الأمطار العديد من أهالي المنطقة إلى ابتكار الحلول العملية، وحصدوا بعض الراحة بمعرفتهم أن لديهم المزيد من الماء المختزن خلال الموسم الذي قد يساعدهم على البقاء عاماً آخر.

