تتوارث النساء في محافظة الضالع جنوبي اليمن، حتى وقتنا الحاضر حرفة صناعة “النيلة الزرقاء”، وهي مادة خضراء تُستخرج من أوراق شجرة السدر، و تُستخدم بشكل أساسي للعناية بالبشرة ، باعتبارها جزءًا لا يتجزأ من التراث المحلي للمحافظة.
تستعيد “نعمة صالح”، وهي سيدة مسنة من ريف محافظة الضالع، ذكرياتها مع النيلة قائلة لـ”منصة ريف اليمن”: “كانت تُضفي جمالًا ونعومة ولمعانًا على وجهي وشعري أثناء الشباب، وما زلت استخدمها حتى اليوم كقناع طبيعي للوجه واليدين”. وتنصح نعمة بتجريب هذه الوصفة تدريجيًا تحسبًا للتحسس النادر، مؤكدة أن أوراق السدر التي تُجمع في موسم الأمطار تمنحها جودة وفعالية أعلى.
ليست النيلة مجرد مسحوق عشبي، بل هي إرثٌ متأصل توارثته الأجيال، وصنعتها الأمهات والجدات بمهارة وصبر، إذ تبدأ رحلتها خلال موسم الأمطار من الجمع إلى الطحن والتخزين، لتمثل مزيجًا من العمل الدؤوب وفرحة الإنجاز.
مواضيع مقترحة
-
الضالع.. المحافظة اليمنية الشهيرة بالسياحة العلاجية
-
تعليم النساء في الضالع: “حورية” شابة تكسر قيود الجهل
-
الحكايات الشعبية.. ذاكرة اليمن الشفوية بلا توثيق
مراحل وتاريخ
تبدأ رحلة النيلة من شجرة السدر، التي تُعرف محليًا باسم “العلب” وتشرح السيدة “رشيدة صالح”، صانعة نيلة من منطقة الفاخر شمال قعطبة، لـ”منصة ريف اليمن” طريقة صنعها قائلة: “نجمع الأوراق، نجففها ليومين أو ثلاثة، ثم نطحنها حتى تتحول إلى جزيئات صغيرة، ونضعها في أكياس”.
تستغرق العملية من الجمع إلى المنتج النهائي – بحسب صالح – ما بين أربعة إلى خمسة أيام، حيث يمنح موسم الأمطار أوراق السدر سماكة وفعالية أكبر، بينما تفضل بعض النساء استخدام الطاحون الحجري التقليدي للحفاظ على أصالة النيلة وخصائصها.
تُعرف النيلة في الضالع باسم “الجوبة”. يُصبغ مسحوقها بألوان النيل الخام المستورد من الهند قبل الطحن، وذلك باستخدام أدوات تقليدية مثل “المرهى” أو “الماورة”، أو باستخدام مطاحن حديثة صغيرة. وبحسب رشيدة فإن صناعة النيلة “متوارثة أبًا عن جد”، مشيرةً إلى أن هذه الحرفة حافظت على وجودها رغم تغير الزمن.

ويشير الصحفي “عبد العزيز الليث” إلى أن النيلة توجد منذ مئات السنين، لذلك يجب الحفاظ على هذا الإرث، داعيا المختصين إلى “تشجيع هذه الحرفة، وتطوير إنتاجها وتصديرها كموروث أصيل ومنتج محلي”.
وأوضح الليث خلال حديثه لـ”منصة ريف اليمن” أن “نيلة الضالع تختلف عن المادة المستخدمة في صباغة الأقمشة، فهي مخصصة للتجميل والعناية بالبشرة، وتحمل رمزية ثقافية وجمالية متجذرة في حياة المجتمع المحلي”.
النيلة جزء أساسي من الطقوس الجمالية والتراثية التي يتمسك بها سكان القرى الريفية بمحافظة الضالع، خاصةً في حفلات الزفاف
استخدامات وأنواع
تتنوع استخدامات النيلة بين الجمال والعناية بالبشرة والشعر، إذ تقول العروس “كاتبة ناجي”، التي استخدمتها قبل زفافها: “كنت أخلط النيلة مع قليل من الماء وعسل النحل، وأضعها على وجهي من الصباح حتى المساء، لمدة أسبوع قبل الزفاف، وكانت النتيجة بشرة صافية ولامعة”. وأضافت كاتبة لـ”منصة ريف اليمن”: النيلة جزء أساسي من طقوس الأعراس في الضالع، نظرًا لفاعليتها في تنقية البشرة وترطيبها وسعرها المناسب.
من جانبها تصف الناشطة “حنان الحبيل” النيلة بأنها “عادة سائدة منذ القدم”، وتضيف لـ”منصة ريف اليمن”: “النيلة تقلل التصبغات، وتنظف المسام، وتنعّم البشرة، وتهدئ الالتهابات، وهذا ما جعلها خيارًا مفضلاً للنساء؛ وخصوصا المقبلات على الزواج”.
تُعرف النيلة بنوعيها الأساسيين: الخضراء والحمراء، ويطلق عليها في بعض المناطق اسم “الجوبة”. وتقول رشيدة إن النوع واحد من حيث الأصل، لكن يمكن صبغها بألوان مختلفة، وإن جودتها تعتمد على الموسم؛ فأوراق السدر في موسم الأمطار أكثر فعالية.

وتؤكد كاتبة ناجي أن الفرق بين النيلة التقليدية والحديثة واضح: “التقليدية طبيعية بلونها الأخضر مع مادة تسمى الهرد، أما الحديثة فتُصبغ بألوان متعددة، وأحيانًا تحتوي على مواد كيميائية”.
تُعدّ النيلة جزءًا من الطقوس الجمالية والتراثية في ريف الضالع، خصوصًا في مناسبات الزواج. تُحضر خلطات خاصة للعروس، تُستخدم لمدة أسبوع إلى نصف شهر قبل الزفاف، بينما تكتفي غير العرائس بوضعها لساعات محدودة للحماية من الشمس وتحسين البشرة.
يذكر المواطن “عيسى علي محمد” تجربته قائلاً: “هي مادة طبيعية ومجربة، أفضل بكثير من المواد الكيميائية، وقد أزالت البقع من وجه زوجتي التي سببتها مستحضرات تجميل كيميائية”. كما ارتبطت النيلة في الموروث الشعبي بحكايات قديمة، إذ كان يُعتقد أنها تشفي الجسم عند استخدامها في الغسل، وهو اعتقاد لا يزال حاضرًا في بعض البيوت الريفية حتى الوقت الحالي .
الحفاظ على الموروث
مدير مكتب الثقافة بمديرية قعطبة “نبيل الأصهب”، قال إن الحفاظ على موروث النيلة يمكن أن يتم من خلال عدة إجراءات، منها “التعريف بالموروث عبر الفعاليات الثقافية ووسائل الإعلام المختلفة، وأرشفة زمن بداية إنتاج ورواج هذه المادة، وإدخالها في مشاركات عبر معارض خارجية”.
وأوضح الأصهب خلال حديثه لـ”منصة ريف اليمن” أن دعم الحرفيين أمر ضروري؛ عبر تشجيعهم على تطوير النيلة في الصناعات الحديثة، مع إضافة مواد حافظة لضمان بقائها فترة أطول، وبيعها كمنتج جمالي، وتصديرها إلى الخارج.
وأشار إلى أن مكتب الثقافة يعمل على “عرض موروث النيلة وتوضيح أهميته في التراث الضالعي من خلال معروضات ثقافية، وتوعية المجتمع للحفاظ على تقاليد استخدام النيلة، إضافة إلى تشجيع منتجيها وتطوير إنتاجها بما يتناسب مع التطورات الحديثة، منوها بأن دور الإعلام المحلي ومؤسسات التعليم مهم في دعم هذه الجهود؛ إذ يمكن أن تُخصص برامج مدرسية وثقافية للتعريف بالنيلة كجزء من الهوية التراثية.

رغم الجهود المبذولة، تواجه عملية الحفاظ على الموروثات الشعبية في الضالع، ومنها النيلة، تحديات كبيرة، من أبرزها استمرار الحرب، التي ألقت بظلالها على شتى مجالات الحياة، وأثرت على استخدامات الموروثات التقليدية.
وعلى الرغم من انتشار مستحضرات التجميل الحديثة في الأسواق المحلية في محافظة الضالع، تبقى النيلة حاضرةً في قلوب النساء لفاعليتها الطبيعية ونتائجها المذهلة، لتشهد على عمق ارتباط الإنسان بأرضه وموروثه العريق.