يعد المعوز واحدا من أبرز الأزياء الشعبية المفضلة لدى الكثير من اليمنيين، ولا تزال صناعته في كثير من المحافظات اليمنية، لكن في قرى وصاب السافل بمحافظة ذمار تُحاك هذه الحرفة التقليدية الراسخة بأيدي النساء، وتعد مصدراً معيشياً مهماً للعديد من الأسر الريفية.
في هذه المنطقة الجبلية، ما زالت النساء تواصل حياكة المعاوز بخيوط الصبر والكفاح، ومن بينهن “أم سامي” التي وجدت نفسها بعد تخلي زوجها عنها وحيدة في مواجهة أعباء الحياة، لتتحمل مسؤولية إعالة أطفالها الثلاثة عبر هذه المهنة.
تمضي أم سامي ساعات طويلة أمام نولها اليدوي، حيث تتحول كل خيوط تُنسج إلى قطعة قماش تؤمن لقمة العيش. وتقول لـ”منصة ريف اليمن”: “صناعة المعوز ليست مجرد حباكة لباس تقليدي، بل هي قصة صمود يومي، وحرفة عريقة قاومت الزمن لتصبح رمزا للهوية ومصدرا للرزق”.
مواضيع مقترحة
-
الجنبية.. إرث تاريخي راسخ ورمز هوية اليمنيين
-
التلفريك في وصاب وريمة: شريان حياة للقرى الريفية
-
الجبن البلدي في وصاب: صناعة ريفية تفتقد التسويق
والمعوز عبارة عن قطعة قماش مستطيلة، مزخرفة بأشكال هندسية متقنة، يلف على الجزء السفلي من الجسم، ولا يزال يحتل مكانة بارزة في حياة اليمنيين، خاصة في المحافظات الجنوبية والوسطى، حيث يرتدى في المناسبات والأعياد كرمز للأصالة والانتماء، وفي بعض المناطق يُلبس بشكل رسمي ودائم.

منطلق الحرفة
على الرغم من انتشار المعوز في مناطق تهامة، وعدن، ولحج، وأبين، وحضرموت، والبيضاء، إلا أن معامل حياكة المعاوز انتشرت في وصاب السافل بذمار وغزت منتجات معاملها الصغيرة الأسواق الشعبية والمراكز التجارية في عدد من المحافظات.
تضيف أم سامي قائلة: “خصصت غرفة في بيتي الطيني، ووضعت فيها نولًا خشبيًا، وبدأت بصناعة المعاوز”. وأضافت لـ “منصة ريف اليمن”: “المعوز بالنسبة لي ليس مجرد قماش، هو لقمة خبز لأولادي، وهوية أريد أن أحافظ عليها”.
السيدة “آمنة محمد (45 عامًا)” هي الأخرى تعمل في ذات الحرفة، بقرية بني حطام في وصاب السافل، وتقول: “بدأت أتعلم الحياكة وعمري خمسة عشر عامًا، علمني أخي بعد أن ورثها عن والدي، ومنذ ذلك اليوم، صارت المعاوز مصدر رزقنا”.
يُعتبر المعوز من الأزياء الشعبية المفضلة لدى الكثير من اليمنيين، ويُعدّ صناعة حرفية تقليدية ومصدر دخل للعديد من الأسر الريفية في منطقة وصاب السافل
في حديثها لـ” منصة ريف اليمن”، تصف آمنة العمل بأنه شاق لكنه مشرف، فالمعوز الواحد قد يستغرق يومًا إلى ثلاثة أيام حسب النقشة، وتوضح: “نستخدم الخيوط الإندونيسية لأنها أفضل، أما الهندية فجودتها أقل، لكن أسعارها اليوم أصبحت تُرهقنا”.
يرى أستاذ علم الاجتماع، الدكتور “عبدالكريم غانم”، أن المرأة الريفية تضطلع بدور كبير في الصناعات التقليدية، خاصةً أنها لا تتعارض مع أدوارها التقليدية، فبإمكانها العمل في هذه الحرف بشكل غير منتظم ومن داخل منزلها، وذلك بفضل بساطة الأدوات المستخدمة وسهولة الحصول عليها؛ مما يجعل هذه الصناعات متاحة في الريف دون الحاجة للانتقال إلى المدن.
ويوضح غانم لـ”منصة ريف اليمن” أن الأهمية الاجتماعية والاقتصادية لهذه الصناعات تكمن في قدرتها على المحافظة على نمط الحياة التقليدي للمجتمع الريفي، وكونها وسيلة للحفاظ على الفلكلور المادي وتناقله بين الأجيال. كما أن نظرة المجتمع المتصالحة مع عمل المرأة في هذه الحرف، وتوارثها ضمن الأسرة، يسهّل عليها تعلّمها دون الحاجة للاختلاط.
حرفة متوارثة
تعتمد صناعة المعاوز على أدوات تقليدية متوارثة، أهمها: الموجَح (الذي يأتي بثلاثة أنواع)، وهو الإطار الخشبي الذي تُرص فيه الخيوط. والمِزَج، وهي أداة صغيرة يُدخل فيها الخيط الملفوف على قصبة لتسهيل تمريره. والطَّرّ، وهي قطعة خشبية تُلف حولها القطعة تدريجيًا أثناء النسج. بالإضافة إلى القصبات، والميل، والحبال، والبِنصر. كل قطعة من هذه الأدوات تحمل أثر جيل كامل من الحرفيين الذين نقلوا هذه التقنية من الآباء إلى الأبناء.

ويؤكد غانم أن الصناعات التقليدية تساهم في الحفاظ على الهوية الثقافية للمجتمع الريفي، حيث تمثل جزءًا من التراث المادي الذي يميز ثقافة كل منطقة يمنية. وعلى الرغم من تأثير العولمة على ذوق المستهلك، فإن سوق المعاوز لا يزال رائجًا؛ مما يشجع الكثير من النساء على الانخراط في هذه الحرفة.
أما الناشطة الحقوقية “هبة زين”، فترى قصة النساء في وصاب السافل مثالًا حيًا على الصمود، فهنّ لا يحافظن فقط على التراث، بل يُؤمِّنَّ قوت بيوتهن في غياب الدولة والمعيل. وفي حديثها لـ “منصة ريف اليمن”، أكدت زين أن “دعم النساء يُعتبر قضية حقوقية وثقافية بامتياز”.
الفرص والتحديات
تشكل المواسم فرصة مهمة، خصوصًا في الأعياد والأعراس حيث يزداد الطلب، لكن الحرفيين يواجهون منافسة قاسية من المنتجات المستوردة، خاصةً الصينية، التي تُباع بأسعار رخيصة لكنها تفتقر إلى الجودة.
ويباع المعوز اليدوي بأسعار متوسطة لا تكاد تكفي لسد نفقات الأسرة، وهو ما يراه الحرفيون تحديًا كبيرًا، إذ تقول آمنة: “لم يكن الربح كافيًا لراحة البال، لكنه يُحرّك الأيادي العاطلة لنكسب قوت يومنا”.
تواجه صناعة المعاوز صعوبات أبرزها: غلاء المواد الخام وصعوبة استيراد الخيوط، ومنافسة المعاوز المستوردة خصوصًا الصينية، وغياب الدعم الرسمي أو الجمعيات المتخصصة
المختص الاقتصادي “ماجد الداعري” قال إن هذه الحرفة تمثل فرصة اقتصادية كبيرة، لكنها مهددة بالانقراض بسبب غياب الدعم الحكومي وارتفاع أسعار الخيوط، ولهذا، يرى أن المطلوب هو إنشاء معامل منظمة، ودعم النساء بالأدوات والخامات والتسويق.
وتعد حياكة المعاوز من الصناعات التقليدية في اليمن، وتدخل ضمن الصناعات النسيجية الأصيلة التي حافظت على بقائها في مواجهة الصناعات الخارجية، لكنها تواجه تحديات كبيرة أبرزها انفتاح الأسواق أمام المنتجات المستوردة، خاصةً الصينية، التي تُباع بأسعار أقل بكثير، ووفق الداعري يتطلب من الدولة اتخاذ إجراءات لحماية وتشجيع المنتج المحلي.
في المقابل، كان للنزاع الحالي في اليمن تأثير إيجابي على هذه الصناعات؛ إذ دفع الكثيرين للعودة إلى قراهم وعزز تمسكهم بهوياتهم الفرعية، وزاد من أهمية عمل المرأة في الحرف التقليدية في ظل انخراط الشباب في الحرب، وعلى الرغم من كل الصعوبات، فإن صوت المكوك ما زال يتردد في غرف القرى، شاهدًا على أن الإرث يمكن أن يكون وسيلة للبقاء، وأن المرأة اليمنية ما تزال قادرة على تحويل التراث إلى حياة.