الأحد, ديسمبر 21, 2025
.
منصة صحافية متخصصة بالريف في اليمن

الزراعة المائية.. خيار المزارعين لمواجهة شحة المياه

عند أطراف مدينة صنعاء غرباً، وتحديداً في منطقة شملان، يجول المزارع “ناعم العباسي” بين نباتاته داخل مزرعته المحمية، من دون أن يغوص في التراب أو يحمل فأساً كما اعتاد طوال سنوات عمله. كل شيء هنا يبدو مختلفاً. بدلاً من الحقول المفتوحة، تمتد أمامه أحواض بلاستيكية مرتبة بعناية، وتتغذّى عبر شبكة ري دقيقة بحيث تصل نقاط المياه مباشرة إلى كل حوض.

في هذا البيت المحمي، يزرع الخيار والخس والجرجير وغيرها من الخضار، في نظام مائي بسيط يحتاج إلى كميات قليلة من المياه والمحاليل الغذائية. يقول العباسي إن كلفة الزراعة التقليدية كبيرة في مقابل إنتاج محدود، وغالباً ما يكون الإنتاج الموسمي متواضعاً. في المقابل، فإن كلفة الزراعة المائية أقل والإنتاج وفير.


مواضيع ذات صلة


مثله، يزرع “عبدالله العقيلي” محاصيله في أحواض مملوءة بالصخور البركانية الصغيرة المعروفة علمياً بـ”التوف البركاني” (نوع من الصخور البركانية الخفيفة، يتكوّن في الأساس من رماد بركاني تراصَّ وتماسك بفعل الزمن)، وتسمّى محلياً بـ”الحصى”، علماً أن أرضه تقع في منطقة جافة عند أطراف صنعاء.

ويتميّز هذا الوسط (المادة التي تُستخدم لتثبيت جذور النبات بدل التربة) بقلة احتباس الماء فيه كونه لا يحتفظ بالماء، بل يسمح بمروره مباشرة إلى الجذور، ويرجع الفائض عبر شبكة من الأنابيب إلى الخزان ليُعاد استخدامه مرة أخرى.

ويؤكد العقيلي أن هناك فرقاً كبيراً بين الزراعة التقليدية والزراعة المائية، موضحاً أن الأخيرة أكثر إنتاجاً بأضعاف، وأن التربة في الزراعة التقليدية تتطلب تغييراً وتجهيزاً مستمراً، بينما يمكن استخدام التوف البركاني لفترات طويلة دون استبدال متكرر.

والزراعة المائية ((Hydroponics هي نظام لإنتاج النباتات يُستغنى فيه عن التربة، وتُزرع النباتات داخل محلول مغذٍ يحتوي على العناصر الضرورية لنموّها، بينما يعمل وسط خامل (مثل البرلايت أو التوف البركاني) على تثبيت الجذور فقط دون أن يزوّدها بالغذاء. ويُعدّ الماء الوسيط الأساسي لنقل العناصر الغذائية والأكسجين إلى الجذور، بحسب منظمة الأغذية والزراعة للأمم المتحدة (الفاو).

كلفة الزراعة التقليدية كبيرة مقابل إنتاج محدود في المقابل كلفة أقل للزراعة المائية وإنتاج وفير.

مواجهة تغير المناخ

وتساهم الزراعة المائية بشكل إيجابي في مواجهة تغيّر المناخ من خلال تقليل استهلاك المياه، ورفع كفاءة استخدام الموارد، وخفض الانبعاثات المرتبطة بالإنتاج الزراعي التقليدي.

وتشير منظمة الفاو وبرنامج الأمم المتحدة للبيئة (UNEP) إلى أن الأنظمة المائية تُعدّ ضمن الأساليب الزراعية منخفضة الانبعاثات (Low-Emission Agriculture) لأنها تعتمد على تقليل استخدام المياه بنسبة تصل إلى 90 في المائة، والاستغناء عن حراثة التربة، وتقليل الحاجة لاستخدام الأسمدة والمبيدات، وإمكانية إنتاج الغذاء داخل المدن، والتكيف مع ارتفاع درجات الحرارة والجفاف.

ويواجه اليمن أحد أسوأ أزمات المياه في العالم، وتتخطى فجوته المائية 1.4 مليار متر مكعب سنوياً، بينما يتراجع نصيب الفرد إلى نحو 70 – 85 متراً مكعباً فقط، مقارنة بالحد المطلق البالغ 500 متر مكعب، وهو من أدنى المعدلات العالمية، كما تشير عدد من منظمات الأمم المتحدة (الفاو، برنامج الأمم المتحدة الإنمائي، وبرنامج الأمم المتحدة للبيئة).

وبحسب الفاو، يأتي الجزء الأكبر من هذا الاستنزاف من القطاع الزراعي الذي يستهلك ما يقارب 90% من الموارد المائية المتاحة، في ظل ارتفاع مستمر في الطلب مقابل تراجع متسارع في قدرة الأنظمة الطبيعية على تجديد المياه الجوفية.

وتبرز صنعاء وأمانة العاصمة التي يقطنها نحو 4.6 ملايين نسمة، كإحدى أكثر المناطق تأثراً بتدهور الموارد المائية في اليمن. ويتراوح متوسط الهطول المطري في حوض صنعاء ما بين 160 و367 ملم سنوياً، في حين ارتفع الضخّ من المياه الجوفية من نحو 25 مليون متر مكعب في عام 1970 إلى ما يقارب 330 مليون متر مكعب في عام 2020، رغم أن التغذية الطبيعية للحوض لا تتجاوز 80 مليون متر مكعب سنوياً.

تعود هذه التقديرات إلى دراسة أعدّها الدكتور الحسن أحمد الجوزي، أستاذ هندسة الموارد المائية، وزملاؤه (2022) والمنشورة في مجلة Water الصادرة عن دار النشر الأكاديمية MDPI، وتشير إلى أن حوض صنعاء يشهد واحداً من أعلى معدلات الاستنزاف المائي في المنطقة.

كذلك، تشير الدراسة إلى أن هذا الخلل الحاد بين السحب والتجدد أدى إلى هبوط المنسوب الجوفي بمعدل 6 – 8 أمتار سنوياً، وتراجع الرقعة الزراعية في الإقليم بنسبة 33% خلال الأعوام الممتدة من 2007 وحتى 2018، مع جفاف العديد من الآبار واعتماد السكان بشكل شبه كامل على المياه الجوفية.

ويُظهر تقرير “المدن الأكثر هشاشة في العالم لعام 2025” الصادر عن المعهد العالمي للقدرات الوطنية (GINC) أنّ صنعاء حلّت في المرتبة الرابعة من بين خمسين مدينة تخضع للتقييم العالمي للهشاشة.

وسجّلت المدينة درجة هشاشة بلغت 8.0 من 10 ضمن بُعد “البيئة والمناخ”، ما يعكس مستوى الخطورة المرتبط باستنزاف الموارد المائية، وضعف البنية التحتية للمياه، وغياب مصادر سطحية (المياه التي تتوفر على سطح الأرض بخلاف المياه الجوفية) يمكن الاعتماد عليها في ظل تزايد تأثيرات الجفاف وتذبذب الأمطار. ويقدّم التقرير صورة واضحة عن تفاقم الضغوط البيئية على المدينة مقارنة بغيرها من مناطق العالم.

أمام هذا المشهد المتدهور – وفي وقت يتصاعد فيه الطلب على الغذاء وتتقلص القدرة على زيادة أو الحفاظ على الرقعة الزراعية التقليدية – تتجه الأنظار نحو الزراعة المائية كخيار يمكن أن يقلل استهلاك المياه بشكل كبير، ويوفّر إنتاجاً مستقراً، كما يؤكد الخبير في علم وظائف النبات “أحمد بابريك”. وتكتسب هذه التقنية أهمية كبيرة في بلد تستنزف فيه الزراعة التقليدية الموارد المائية، ويواجه سكانه أخطاراً متزايدة على الأمن الغذائي والمائي.

ويوضح بابريك أنّ “الزراعة المائية تمثل حلاً فعّالاً لمواجهة ندرة المياه، وتوفر ما بين 70 و90% من استهلاك المياه مقارنة بالزراعة التقليدية”. يضيف أن الزراعة المائية “تزيد الإنتاجية والعائد المالي لكل وحدة مساحة بنحو ضعفين إلى ثلاثة أضعاف، مع إمكانية الإنتاج المستمر طوال العام، عدا عن تقليل المخاطر البيئية المرتبطة بالجفاف، إضافة إلى خفض استخدام المبيدات الزراعية”.

وتُعدّ الخضار الورقية والثمارية مثل الخس والجرجير والنعناع والكزبرة والبقدونس الطماطم والخيار والفلفل الحلو والحار والباذنجان والبامية، من أكثر المحاصيل استجابةً للزراعة المائية في اليمن، وفقاً لبابريك. ويعزو السبب إلى قدرتها على النمو السريع وتحقيق إنتاجية مرتفعة داخل البيوت المحمية.

تحديات

تفيد الفاو وخبراء محليون بأن الزراعة المائية، رغم مزاياها الكبيرة، إلا أنها ليست خالية من التحديات؛ فالأنظمة المائية تتطلب استثمارات أولية مرتفعة الكلفة، ومهارات تقنية دقيقة، وقد يؤدي أي خلل في إدارة المحلول المغذي أو حدوث أعطال فنية مفاجئة إلى خسارة المحصول خلال فترة قصيرة.

وتشدد على أن جودة المياه تعدّ ركيزة أساسية لنجاح هذه الأنظمة، لأن النباتات في البيئة المائية أكثر حساسية للملوحة ودرجة الحموضة مقارنة بالزراعة التقليدية. وترى أن توفر المدخلات الأساسية مثل الأوساط الزراعية والأسمدة الذائبة، سواء محلياً أو عبر الاستيراد، يؤثر مباشرة على الكلفة وإمكانية استمرار المزارعين في تشغيل أنظمتهم.

في السياق نفسه، يوضح مختصون أن الزراعة المائية في اليمن تواجه تحديات إضافية تتصل بواقع البلاد، أبرزها ضعف جودة المياه وارتفاع نسبة ملوحتها في عدد من المناطق، الأمر الذي يتطلب معالجات مكلفة قبل استخدامها في الأنظمة المائية.

كذلك، تتطلب هذه التقنية متابعة يومية دقيقة تشمل مراقبة المضخات والأنابيب، وتنظيف الخزانات، وضبط الحموضة والملوحة، وهي مهام تصبح أكثر صعوبة في البيئات الحارة وشحيحة المياه، وترتفع حرارة المحلول وتتراجع نسبة الأكسجين؛ ما يزيد أخطار الأمراض الفطرية والجذرية.

يُضاف إلى ما سبق ارتفاع أسعار مدخلات الإنتاج، وصعوبة استيراد الأسمدة الضرورية للأنظمة المائية، إضافة إلى انقطاع الكهرباء المتكرر الذي يهدد بتوقف تشغيل المضخات، ويعرض المحاصيل للخطر.

وفي وقت سابق، قال مدير عام الإنتاج النباتي بوزارة الزراعة والري في صنعاء المهندس وجيه المتوكل، إنهم حققوا نماذج ناجحة للزراعة المائية شملت تسعة محاصيل مختلفة في مساحة صغيرة، موضحاً أن التجربة قابلة للتنفيذ على أسطح المنازل أو في الشرفات، وقد حققت اكتفاءً ذاتياً.

وأضاف في أحاديث متلفزة، أن الزراعة المائية أصبحت خياراً مناسباً للبيوت المحمية في اليمن، في ظل تحديات التربة، التي دفعت المزارعين إلى استخدام مبيدات خطيرة مثل بروميدا الميثايل، لافتاً إلى أن الإحصاءات تشير إلى وجود أكثر من 200 ألف بيت محمي في اليمن. وختم أن الزراعة المائية تتجاوز مشكلة التربة غير الخصبة أو الصخرية، وهو ما يجعلها مناسبة في المناطق في اليمن وفي دول أخرى.

شارك الموضوع عبر: