عند الغروب في قرية جبلية بمديرية رازح بمحافظة صعدة شمال غرب العاصمة صنعاء، تصطف الصفوف وتشُد الأحزمة على الجنابي ويعلو إيقاع الطبول بخفة مدروسة، ويندفع الراقصون في قفزات دائرية يلمع نصل الجنبية في الهواء ثم يعود إلى خاصرة صاحبه في حركة محسوبة ومدروسة في مشهد مألوف في أعراس صعدة ومواسمها.
على مدى سنوات والرقصات الشعبية مألوفة في أعراس صعدة ومواسمها لكنها أيضا تجد أصداءها على الضفة الأخرى من الحدود في نجران وعسير وجازان حيث تتجاوب الإيقاعات والقصائد والحركات وكأن الجبال تتبادل السلام خطوة بخطوة.
مواضيع مقترحة
-
“الزبيّرية والعسكري”.. رقصات شعبية يمنية في تعز
-
حضرموت.. تفرّد وتَمَيُّز ثقافي متوارث وراسخ
-
حفلات الزفاف في المحويت: تكاتف مجتمعي متوارث
في عصر التطور التكنولوجي المتسارع تظل الرقصات التقليدية في محافظة صعدة شاهداً حيا على إصرار المجتمع في الحفاظ على هويته الثقافية ليست هذه الفنون مجرد أداءات حركية، بل هي تعبير عن التاريخ والانتماء والقيم المجتمعية التي تتحدى ظروف الحرب والنزوح.
أثر لا يندثر
تمثل الرقصات الشعبية جزءاً أساسياً من المناسبات الاجتماعية والدينية والاحتفالات القبلية حيث ذكر علي المحمدي الباحث في الرقص الشعبي اليمني في كتابه الرقصات الشعبية اليمنية أن محافظة صعدة تتميز برقصات تفوق المحافظات اليمنية الأخرى وتظهر تنوعاً كبيراً في الأنواع أكثرها شهرة هي المثلوث، السحار، النسر والرازحية.
تمثل الرقصات الشعبية جزءاً أساسياً من المناسبات الاجتماعية والدينية والاحتفالات القبلية ويعتبر البرع الصعدي حركة حيوية سريعة الإيقاع
رقصة المثلث هي رقصة ثلاثية يتناغم الأداء بين ثلاثة أنماط متناسقة ويحمل في طياته إحساسا بالحركة والأداء المتسق، أما رقصة السحار فتقدم بإيقاع واحد لكن يتم الانتقال فيه بطريقة انسيابية تشبه الأداء العسكري يلبس فيها الزي التقليدي الجنبية والثوب اليمني ويظهر ذلك شكلا هندسيا يتم تداخله مع الإيقاع ذاته.
وتحاكي رقص النسر حركات النسر المنقض على فريسته حيث يظهر الراقص حركات دقيقة تحاكي طيران النسر في السماء وتعزز من عمق الرقص كأنها تدعو الجمهور للتأمل في طبيعة الطيران والحرية، أما الرازحية فتعتبر من أشهر رقصات صعدة تظهر فيها الحركة البطيئة والهادئة التي تتخللها حركات دقيقة مع إيقاعات ناعمة تعطي شعورا بالسكينة والدفء.
البرع الصعدي
يعتبر البرع الصعدي حركة حيوية سريعة الإيقاع تؤدى في الأفراح والمناسبات السعيدة، إذ يقول “فؤاد الشرجبي” مدير البيت اليمني للموسيقى أن هناك غناء صعديا متميزا جدا وإيقاعات ورقصات، ولديهم جزء من الروح البدوية وتنوع في الألوان الغنائية “إن صعدة تظهر تنوعا ثقافيا لا يضاهى”.
ويقول “محمد علي ثامر” مدير عام الإحصاء الثقافي بوزارة الثقافة والسياحة إن جهود توثيق التراث الموسيقي والفلكلوري اليمني توقفت منذ اندلاع الحرب بعد أن كان مركز التوثيق الموسيقي يحقق إنجازات بارزة.
وأكد خلال حديثه لـ”منصة ريف اليمن”، أن غياب الأرشفة المنهجية أدى إلى تراجع يهدد بقاء الرقصات الشعبية والتراث الغنائي، مشيرا إلى أن الجهود الحالية تقتصر على مبادرات فردية محدودة مثل بعض الأنشطة التي يشرف عليها البيت اليمني للموسيقى في ظل غياب خطط رسمية شاملة بسبب الأوضاع الراهنة.
في ظل الحرب والتحديات تتحول الرقصات إلى وسيلة للمقاومة السلمية تعبر عن التمسك بالهوية والكرامة، وتعزز السلام الداخلي والتلاحم المجتمعي. التراث الراقص في صعدة ليس مجرد فنون أدائية، بل هو روح مجتمع حي يعبر عن تاريخه وقيمه وتطلعاته.
يلعب الشباب دوراً مهماً في الحفاظ على الرقصات التقليدية؛ يتعلمون وينقلون هذه التقاليد إلى الأجيال المقبلة من خلال توثيق هذه الفنون ،وتطوير عروض تزاوج بين الأصالة والحداثة مما يضمن استمراريتها.
أصبحت منصات التواصل أدوات حيوية لنشر الرقصات التقليدية حيث توثق المقاطع وتشارك على نطاق واسع؛ مما يحولها إلى ذاكرة رقمية تحفظ التراث من الاندثار
“ناصر الوادعي ( 50 عاماً)” أحد سكان منطقة رازح بمحافظة صعدة، يؤكد أن الرقصات هي ذاكرة شعبنا الحية في كل مناسبة نجتمع فيها لأداء البرع أو الرقصة الرازحية، نعيد اكتشاف روابطنا بعضنا ببعض، ونذكر أنفسنا بأننا أقوى عندما نكون وحدة واحدة.
هوية وتراث
تتشابه نجران السعودية مع صعدة اليمنية في الرقصات والحركات الجماعية والإيقاعات المستمدة من البيئة الصحراوية للتراث الفني؛ فرقصة الزرافة التي تؤدى في نجران تشبه إلى حد كبير رقصة المثلوث بصعدة.
يقول الشاب “عبد الرحمن عداوي (33 عاماً)” وهو أحد سكان منطقة نجران: “رقصاتنا متشابهة إلى درجة كبيرة سواء في الإيقاع أو في الرموز التي تحملها كرقصة الزرفة النجرانية ورقصة المثلوث الصعدية”.
أما “محمد القاضي (35 عاما)”، أحد سكان محافظة صعدة فيقول: “الرقصات ليست مشابهة فحسب بل هي نفسها (البرعة) فهم نفس القبائل فقط، الحدود جعلتهم جزءاً داخل اليمن وآخر داخل السعودية، وإلا فهي جميعا قبائل خولان بن عامر بمحافظة صعدة وفي السعودية”.
ويضيف: “لا يزالون ينتسبون الى خولان بن عامر إلى الآن ويتعزوا بهذا، فهي قبائل خولانية لها نفس العادات والتقاليد والبرع، وتحافظ عليها بشكل كبير، وهي قبائل كبيرة تمتد من حدود منبه ورازح حتى تصل إلى أبها مثل قبائل فيفا وبني مالك وصبيا والحرث وجميع قبائل عسير وجيزان”.
الرقص والتكنولوجيا
مؤخراً أصبحت منصات مثل يوتيوب وتيك توك وانستغرام وفيس بوك وغيرها أدوات حيوية لنشر الرقصات التقليدية حيث توثق المقاطع وتشارك على نطاق واسع؛ مما يحولها إلى ذاكرة رقمية تحفظ التراث من الاندثار وتفتح آفاقا للتواصل الثقافي العابر للحدود، وفي عصر التكنولوجيا لم يعد الرقص الصعدي اليوم حكرا على الرجال، بل بات يأخذ حيزا في حفلات وأعراس النساء اليمنيات كنوع من أنواع الاحتفال والابتهاج.
يظل التراث الراقص في صعدة أكثر من مجرد حركات وإيقاعات فهو لغة هوية تحفظ جذور الانتماء وتبني جسوراً من التواصل الثقافي بين المجتمعات
تقول “أمل محمد ( 25 عاماً)” ذهبت إلى عرس في صنعاء وشاهدت مجموعة نساء يرقصن رقصا جديدا وجميلا جدا، وحينها سألت عنه تبين لي أنه صعدي، وتضيف لـ “منصة ريف اليمن”: “صحيح أن الرجال فقط من يرقصون هذا النوع لكنه راق للنساء في العرس وتمارسه النساء في الكثير من المناسبات النسائية “.
يظل التراث الراقص في صعدة أكثر من مجرد حركات وإيقاعات فهو لغة هوية تحفظ جذور الانتماء وتبني جسوراً من التواصل الثقافي بين المجتمعات، وعلى الرغم من الحرب وتحديات العصر يبقى هذا الفن الشعبي شاهداً على أن الثقافة قادرة على البقاء والتجدد مهما تغيرت الأزمنة.



