تُعد صناعة الجبن البلدي إحدى أعرق الحرف التقليدية في مديرية وصاب السافل بمحافظة ذمار، حيث توارثتها الأجيال منذ مئات السنين حتى غدت جزءا من الهوية المحلية ومصدر دخل رئيسي لعشرات الأسر، لاسيما في القرى الريفية الواقعة على ضفاف الأودية الخصبة.
تنتشر صناعة الجبن في قرى وصاب السافل على نطاق واسع، أبرزها قرى (الأجراف، بني علي، قوير، بني حسام، الجمعة، مشرافة، وبني سوادة)، وتوفر هذه المناطق بيئة رعوية مثالية لتربية الأغنام، المصدر الأساسي للحليب المستخدم في صناعة الجبن، يليها الأبقار كمصدر ثانوي.
رغم انتشار صناعة الجبن البلدي في وصاب إلا أنه يفتقد للتسويق وغير منتشر بيعه في المحافظات اليمنية، ولا يحظى بشهرة واسعة؛ حيث يباع في مناطق محدودة، مقارنة بذات النوع من الجبن المصنوع في محافظة تعز.
مواضيع مقترحة
-
الاقتصاد الريفي: كفاح مستمر من أجل البقاء
-
معاصر زيت السمسم.. تُراث وغذاء في اليمن
-
الثروة الحيوانية.. ركيزة اقتصادية مهملة في اليمن
وبحسب الخبير في صناعة الجبن “أحمد حمزة المشرع”، ينقسم الجبن المنتج في وصاب إلى نوعين رئيسيين: الجبن المكبّى”المُدخَّن” ويتميز بلونه الأصفر أو البرتقالي ويُعرض في ثلاثة أشكال (الأقراص الكبيرة، والمتوسطة والصغيرة)، ويوجد في معظم المناطق المنتجة، و”الملخف”، وله شكل كروي مميز.
ويوضح المشرع لـ”منصة ريف اليمن” أن “النوع الثاني يسمى “العوب” غير مُدخن ولونه أبيض، يُنتج غالبا للاستخدام الشخصي في منازل صانعي الجبن، ولا يُباع في الأسواق إلا بطلب خاص من الزبائن، ويعد الجبن المكبّى الأكثر شهرة ورواجا في الأسواق المحلية وحتى في التصدير”.
ويلفت إلى أن الجبن البلدي يُباع في أسواق وصاب المحلية من خلال “المجابِرة” وهم عملاء دائمون يتولون نقل الجبن من القرى إلى الأسواق، أو بيعه لتجار يعملون على تسويقه داخل المحافظات اليمنية المختلفة، بل ويصل البعض منهم إلى تصديره إلى دول الخليج.

وبحسب المشرع يعتمد إنتاج الجبن البلدي على أربعة عناصر رئيسية، الحليب الطازج والنفح أو “الصوط” وهو مادة مُخمرة مأخوذة من معدة صغار الأغنام، حيث تجفف وتستخدم بنسب دقيقة لتخثير الحليب، وأدوات التصنيع وتشمل “صحاف” للخلط، قوالب بلاستيكية مختلفة الأحجام، و”العزفة” المصنوعة من النخيل لتصفية الماء من الجبن، والكَبْي (التدخين) لإضفاء نكهته المميزة”.
وعن أسعار الجبن، يقول “عبدالله الجَرفي”، وهو مورد جبن في سوق الثلوث ملتقى مديريتي وصاب: “لا توجد تسعيرة ثابتة للجبن، فهي تتغير بحسب وفرة الإنتاج والموسم، فخلال موسم الأمطار والزراعة تكون الأسعار منخفضة نسبيا بسبب كثرة المعروض، بينما ترتفع عند نقص المراعي وقلة الحليب”.
ويُباع الجبن غالبًا بـ”السابع”، أي سبع قطع في كل صفقة، وهي عادة متوارثة من الأجداد، ويبلغ سعر السابع الصغير من 2000 إلى 3000 ريال، والمتوسط من 5000 إلى 7000 ريال، والكبير من 8000 إلى 10000 ريال، ويضاف إلى هذه الأسعار تكاليف النقل وهامش الربح عند بيعه في الأسواق الكبرى أو عند تسويقه خارج المديرية.
إقبال كبير وتحديات مستمرة
ويشهد الجبن الوصابي إقبالًا كبيرًا، خصوصًا في فصل الشتاء وبين الأسر التي تدرك قيمته الغذائية ونكهته المميزة، لكن التجار يواجهون صعوبات كبيرة في نقله من القرى الجبلية إلى المدن، إذ إن الطرق الوعرة وارتفاع تكاليف النقل يهددان جودة المنتج، خاصة أن بعض القرى المنتجة تقع في أعالي الجبال.

ويؤكد التاجر “زايد المطحني” أن أسعار النقل ارتفعت، ناهيك عن نقص أدوات التعبئة والتغليف الصحية بالشكل المناسب، فيقول: “كثيراً ما نتحمل خسائر إذا لم تُبَع الكمية سريعا؛ لأن الجبن منتج حساس ويتأثر بدرجة الحرارة وسوء التخزين”.
ويضيف خلال حديثه لـ”منصة ريف اليمن”، أن كثيراً من الزبائن في موسم الإنتاج يحجزون كميات مسبقاً، سواء للاستخدام المنزلي أو للبيع في منافذ البيع كالبقالات والسوبر ماركات، وأحيانا حتى للتصدير إلى دول الخليج عبر وسطاء، معبرا عن أمله بدعم هذا المنتج من الجهات المختصة، سواء بتحسين الطرق، أو توفير وسائل تبريد ونقل حديثة، أو حتى فتح منافذ تسويقية أكثر تنظيما داخل وخارج المحافظة.
نكهة الريف في المدينة
لم يقتصر حضور الجبن الوصابي على الريف، بل وصل إلى أسواق المدن، ففي صنعاء، يروي البائع “هشام فتيني” كيف بدأ قبل سنوات بكميات بسيطة، ليصبح اليوم صاحب قاعدة من الزبائن الدائمين، ويبيع أسبوعيًا ما بين 300 و500 قطعة، مؤكداً أن “نكهة الريف” وجدت جمهورها الواسع في المدينة.
يقول فتيني لمنصة ريف اليمن: “كنت في البداية أحمل كميات بسيطة من وصاب، وأعرضها في وعاء صغير على الرصيف، واليوم أصبح لدي زبائن دائمين، ويثقون في جودة الجبن الذي أقدمه، ويزداد الطلب في المواسم والمناسبات، خاصة من العائلات التي تبحث عن الطعم الأصيل والنكهة المدخّنة التقليدية”.

ونوه الفتيني إلى أن “العمل في الشارع ليس سهلاً، هناك تقلبات في السوق، وارتفاع في أسعار النقل والتوصيل، وأحيانًا نتعرض لمضايقات أو نتحمل خسائر إذا لم تبتع الكمية”. لكن رغم ذلك، يشعر بالفخر بأنه يروج لمنتجه المحلي ويساهم في ربط الريف بالمدينة، كما يصف: “نذكّر الناس بنكهة الريف”.
ويختتم حديثه: “الجبن الوصابي له جمهور واسع، وما ينقصنا هو دعم رسمي يسهل وصول المنتج إلى الأسواق بوسائل حفظ ونقل مناسبة، وأتمنى لو يتوفر لنا مكان عرض ثابت، أو سوق منظم يضم بائعي الجبن البلدي”.
ركيزة اقتصادية
ويرى الباحث الاقتصادي “رياض العمري” أن صناعة الجبن البلدي في وصاب أصبحت ركيزة اقتصادية مهمة للعديد من الأسر الريفية، وسلسلة متكاملة من النشاط الاقتصادي تبدأ من تربية الأغنام وصولا إلى التسويق في المدن وحتى التصدير خارج البلاد.
ويضيف خلال حديثه لمنصة ريف اليمن: “نحن أمام اقتصاد ريفي نابض، يوفر فرص عمل، ويحرّك عجلة التجارة المحلية، لكن رغم هذه الأهمية، لا يزال هذا القطاع يفتقر للدعم الرسمي، سواء في البنية التحتية، أو في تنظيم الأسواق، أو حتى في وسائل الحفظ والنقل”.

ويتابع العمري: “إذا تم الاستثمار في هذا المنتج، من خلال توفير تبريد مخصص، ودعم طرق المواصلات، وتدريب المنتجين على معايير الجودة، فإننا أمام فرصة حقيقية لتحويل الجبن البلدي إلى منتج تنافسي على المستوى الإقليمي والدولي، وتحقيق تنمية ريفية مستدامة”.
الجدير بالذكر أن الاقتصاد الريفي يعتمد بشكل كبير على الزراعة وتربية المواشي كركائز أساسية لمعيشة السكان، وتشكّل هذه الأنشطة المصدر الرئيسي للدخل والاحتياجات الأساسية لسكان المناطق الريفية.