في اليوم العالمي للسكان الذي يصادف 11 يوليو/ تموز سنويا، تتصدر قضايا النمو السكاني وحقوق الإنسان في التنمية المستدامة جداول النقاش العالمي، بينما يبقى الملايين في قرى ريف اليمن مجرد أرقام صامتة، يواجهون التهميش بأجساد منهكة وأحلام مؤجلة.
قرى يمنية كثيرة تعاني، هناك حيث تنتهي الطرق المعبدة، وتبدأ سلاسل الجبال والوديان، يكابد الناس يومهم في صمت مؤلم، لا ماء نظيفاً، ولا كهرباء، ولا خدمات صحية أو تعليمية، كل الحقوق المتمثلة بالحياة الآمنة والخدمة الأساسية ما تزال معلّقة.
انعدام الخدمات الصحية
في الريف يصبح الوصول إلى منشأة صحية كأنه إنجاز، فلا توجد طرق مهيأة، والمرافق الصحية -إن وجدت- تفتقر للكوادر والأدوية والمعدات. “عبدالعليم محمد سعيد” أحد سكان قرية “بني وهبان” بمحافظة تعز، يعبر عن الواقع الصعب فيقول: “في لحظة طارئة – حين يسقط أحدهم مغشيًا عليه أو يصرخ طفل من شدة الألم – تبدأ رحلة النجاة، على ظهر دراجة نارية، أو داخل سيارة شاص قديمة متهالكة، أو مشيا على الأقدام”.
مواضيع مقترحة
التلفريك في وصاب وريمة: شريان حياة للقرى الريفية
مرضى السرطان: آلام مضاعفة تفتك بسكان الريف
الإنترنت في الريف: خدمة متقطعة أو خارج التغطية
ويضيف عبدالعليم في حديثه لمنصة ريف اليمن: “نتصرف حسب حالة المريض، إذا كانت طارئة نركب شاص أو دراجة، وإذا كانت عادية نمشي على الأقدام”، لافتا إلى أن “المركز الصحي الأقرب لا يبعد كثيرًا لكن الوصول إليه أشبه باجتياز طريق طويل محفوف بالخذلان”.
المرافق الصحية، إما مغلقة، أو خالية من الأدوية والكوادر، ويضطر المريض للسفر ساعات، ويؤكد عبدالعليم أن “المركز لا يحمل من اسمه إلا اليافطة، فخدماته محدودة، أجهزته قديمة، تخصصات الأطباء غائبة، والأدوية غير متوفرة إلا في صيدليات خاصة لا وجود لها أصلاً”.
ويتابع: “أحيانًا لا يوجد طبيب، ولا توجد كهرباء، ولا توجد وسيلة إسعاف، كذلك نعاني من قلة المواصلات، حتى المرضى لا يجدون من يوصلهم”.
أكثر من 23.7 مليون يمني يعيشون في المناطق الريفية، ما يشكّل الغالبية الساحقة من السكان، إلا أن معظمهم لا يتمتعون بالحد الأدنى من الخدمات الأساسية
وبحسب منظمة الصحة العالمية، يوجد في اليمن 5.25 طبيبًا فقط لكل 10,000 نسمة، وغالبيتهم يتمركزون في المدن، بينما تبقى القرى عرضة للوباء والموت البطيء، في وقت تشير تقارير محلية إلى أن 75% من القرى الريفية لا يوجد بها أي مرفق صحي دائم؛ ما قد يجعل جرحًا بسيطًا أو حمى موسمية تتحول إلى كارثة.
تعليم غائب
ليست الصحة وحدها، فالتعليم ليس أفضل حالًا؛ فهناك مدارس مهملة، ومعلمون بلا مرتبات، وطلاب يسيرون ساعات مشيًا على الأقدام عبر الجبال، فقط ليصلوا إلى فصل مكتظ لا توجد فيه حتى سبورة سليمة، كما في منطقة سنحان بصنعاء – بني مسعود تحديدًا – حيث مدرسة واحدة تستوعب أكثر من ألف طالب وطالبة، دون مقاعد كافية، أو كتب مدرسية.
“الفصول مزدحمة، الكراسي والطاولات قليلة، المناهج شحيحة، والتعليم ضعيف بسبب كل ذلك”، يقول الأستاذ “بشير القادري”، وهو معلم يقاوم الظروف القاسية كي يوصل رسالته.
ورغم كثرة زيارات الجهات والمنظمات – كما يقول القادري – إلا أن أثرها محدود جدًا. ويضيف “الزيارات كثيرة، لكن لا نتائج ملموسة. المرتب منقطع، والحافز المجتمعي لا يكفي حتى لشراء الدقيق”.
ويكمل حديثه: “في بعض القرى، لا يملك الطلاب حتى دفاتر أو كراسي يجلسون عليها، وفي قرى أخرى، لا يملكون حتى الأمل في إكمال تعليمهم. نقص الكوادر التعليمية، عدم توفر الكتب، المقاعد، المعامل… كل هذا يجعل التعليم في الريف مرهقًا ومنهكًا”.
ووفقا لبيانات برنامج الأمم المتحدة الإنمائي (UNDP) لعام 2023 فإن أكثر من 23.7 مليون يمني يعيشون في المناطق الريفية، ما يشكّل الغالبية الساحقة من السكان، إلا أن معظمهم لا يتمتعون بالحد الأدنى من الخدمات الأساسية؛ حيث يُحرم الريفيون من المياه النقية، والرعاية الصحية، والتعليم الجيد؛ ما يجعلهم في قلب أزمة إنسانية مزمنة.
الفرار من الفراغ
هذا الواقع لا يصنع الحرمان فقط، بل يولد أيضًا الإحباط، الهجرة، والأمية. آلاف الشباب يغادرون قراهم إلى المدن بحثًا عن فرصة، أو إلى الخارج بحثًا عن النجاة، ومن تبقّى؛ يحاول أن يعيش في فراغ تنموي عميق، حيث لا الدولة تصل، ولا المنظمات تنظر، ولا الصوت يُسمع.
ليست الصحة وحدها، فالتعليم ليس أفضل حالًا؛ فهناك مدارس مهملة، ومعلمون بلا مرتبات، وطلاب يسيرون ساعات عبر الجبال؛ ليصلوا إلى فصل مكتظ لا توجد فيه حتى سبورة سليمة
“ريان أحمد”، شاب من ريف محافظة حجة، أحد الذين قرروا مغادرة القرية بعد أن ضاقت عليه السبل، يقول لمنصة ريف اليمن: “في الريف لا تعليم، لا عمل، لا علاج، البطالة تطاردنا كل يوم، أغلب الشباب هاجروا إلى السعودية، أو اشتغلوا في الأسواق والدراجات”.
ووجه أحمد رسالته إلى الدولة والمنظمات بالقول: “افتحوا مشاريع، وفروا فرص عمل، اهتموا بالتعليم، افتحوا جامعات، جهزوا مستشفيات”، ورغم أن ما يطلبه بسيط، إلا أن المسافة بينه وبين ما يحلم به طويلة، تمامًا كالمسافة بين قريته وأقرب خدمة إنسانية.
القصص القادمة من شرعب، وسنحان، وحجة، كلها تؤكد أن الريف اليمني ليس مجرد منطقة جغرافية معزولة، بل هو واقع منسيّ بالكامل، فالشباب بلا مستقبل، والأطفال يتعلمون على الأرض، الأمهات يحملن أطفالهن فوق الجبال بحثًا عن علاج، وقرى بلا ماء ولا طريق ولا كهرباء، وكلها بانتظار الحلول.