من شوارع مكة المكرمة حيث بدأت “فاطمة سمين” (38 عاماً) حياتها وصولاً إلى قاعات الجامعة في محافظة مأرب شمال شرقي اليمن، مرت بسلسلة من التحديات سواء من الأسرة أو المجتمع لكنها واصلت مشوار الكفاح في التعليم وصنعت قصة استثنائية.
وفي مجتمع لا يزال متشبثًا بالعادات والتقاليد إستطاعت “فاطمة” أن تحول التحديات إلى دافع للنجاح وتصنع قصة ملهمة في الإرادة والصبر والتحدي، محققةً أحلامها رغم الصعوبات المختلفة التي واجهتها لكنها واصلت تعليمها رغم حالة عدم الاستقرار وهي شهادة حية في الإصرار وتحقيق النجاح.
قصة ملهمة
بدأت “فاطمة” حياتها بمكة وقضت فيها 11 عامًا من عمرها، درست حتى الصف الخامس الابتدائي، وكانت دائمًا ضمن الأوائل، غير أن حياتها تغيّرت تمامًا عندما قررت أسرتها العودة إلى اليمن والاستقرار في ريف الحديدة، حيث اصطدمت بطبيعة اجتماعية تقليدية لم ترَ في تعليم الفتاة ضرورة.
تقول فاطمة في حديثها لـ”منصة ريف اليمن”: “كان والدي هو الوحيد الذي دعم استكمال تعليمي، لكننا واجهنا رفضًا شديدًا من عمي الذي رأى في تعليم الفتيات خروجًا عن العادات، أرغمنا على التوقف عن التعليم لمدة عشر سنوات، وهي فترة كانت كفيلة بقتل أحلام أي فتاة”، لكنها لم تفلح في إخماد طموح فاطمة.
وحَرمت العادات والتقاليد المجتمعية المنتشرة في بعض المحافظات المئات من الفتيات من استكمال تعليمهن، وساهمت بتوسع دائرة الأمية بين الفتيات.
مواضيع مقترحة
فتاة ريفية تؤسس مركز تدريب وتستوعب الآلاف
البُن اليمني: ثروة مهدورة ومزارعين فقراء
زبيدة اللحجي.. نموذج كفاح ونجاح للمرأة الريفية
بعد سنوات من المعاناة، حصل والدها على عمل في المدينة، وانتقلت الأسرة إلى بيئة أكثر انفتاحًا. أرادت فاطمة العودة إلى الدراسة، لكنها واجهت صعوبات في إثبات تعليمها السابق في السعودية؛ حيث رفضت المدارس قبولها لعدم امتلاكها شهادات رسمية.

رغم نجاحها في اختبار أجرته مديرة إحدى المدارس، تم رفض قبولها بسبب قوانين التربية والتعليم، اضطرت فاطمة حينها للالتحاق بمركز محو الأمية لمدة عام، حصلت بعده على شهادة مكنتها من القفز مباشرة إلى الصف السابع، لتبدأ رحلة دراسية جديدة انتهت بحصولها على الثانوية العامة في العام 2015.
لم تكن الصعوبات التعليمية وحدها ما تواجهه فاطمة، بل كانت الأحوال المعيشية أيضًا شديدة القسوة، لكنها لم تستسلم، بل بدأت تتعلم الخياطة والأشغال اليدوية، وتخطط لتوسيع مشروعها
وتضيف فاطمة: “واجهتُ الكثير من التنمر بسبب قصر قامتي، وكان بعض الطلاب يسخرون مني، لكنني وجدت سندًا من زميلاتي اللواتي قدمن لي الحماية والدعم؛ مما منحني شعورًا بالأمان داخل المدرسة”.
طموح لا ينكسر
لم تكن الصعوبات التعليمية وحدها ما تواجهه فاطمة، بل كانت الأحوال المعيشية أيضًا شديدة القسوة؛ إذ كانت تحصل على 200 ريال فقط كمصروف يومي، وفي كثير من الأيام تذهب إلى المدرسة دون مصروف، مكتفيةً بطعام بسيط من منزلها.
لم تستسلم، بل بدأت فاطمة تتعلم الخياطة والأشغال اليدوية، وبدأت في صناعة منتجات منزلية صغيرة، وتعاونت مع طالبات في مركز تحفيظ القرآن لبيعها. تقول: “اعتمدت على نفسي، وبدأت أساعد في إعالة إخوتي الذين كانوا يدرسون معي، وشيئًا فشيئًا بدأت الطلبات تزداد، حتى أصبحت منتجاتي معروفة في منطقتنا”.
لم تتوقف أحلامها عند ذلك؛ فهي تخطط أيضًا لتوسيع مشروعها في الخياطة، وتحويله إلى محل لتأجير فساتين الأعراس، مؤكدة أنها لا ترى أي شيء مستحيلًا، ما دام الإنسان يمتلك العزيمة والإرادة.

بعد إنهاء المرحلة الثانوية، التحقت فاطمة بجامعة إقليم سبأ بمحافظة مأرب، واختارت قسم الفنون الجميلة، ورغم توقع الكثيرين أنها لن تصمد طويلًا، بسبب ما تتعرض له من تنمر، إلى أنها فاجأت الجميع، وأثبتت أنها أقوى من النظرات والأحكام المسبقة، وأن النجاح لا يُقاس بالطول أو بالحجم، بل بالإرادة.
عند تسجيلها في الجامعة، لم يتم قبولها بسهولة، وقوبلت بالرفض غير المباشر، وواجهت شكوكًا حول قدراتها العقلية، كما حدث معها في طفولتها، لكن هذه المرة؛ إحدى المعلمات وقفت إلى جانبها، وساعدتها في التواصل مع رئيس قسم الإعلام، الذي وافق على قبولها.
رغم كل الصعوبات والتحديات التي واجهتها فاطمة في مسيرة حياتها، لم تفقد شغفها بالإعلام، بل تطمح أن تكون مذيعةً ومصورة بعد تخرجها من قسم الإعلام
إصرار وأمل
بعد عام من دراستها في قسم الفنون الجميلة، أغلق القسم أبوابه بسبب عدم إقبال الطلاب؛ مما أجبرها على التوقف عن الدراسة لمدة عامين، قبل أن تقرر الالتحاق بقسم الإعلام وتتخصص “إذاعة وتلفزيون”، حيث وجدت فيه شغفها، خاصة في سنتها الأخيرة.
رغم كل الصعوبات والتحديات التي واجهتها فاطمة في مسيرة حياتها، لم تفقد شغفها بالإعلام، بل تطمح أن تكون مذيعةً ومصورة بعد تخرجها من قسم الإعلام، فهي تؤمن أن صوتها يجب أن يصل، وأن لديها رسالة يجب أن توصلها للعالم. تقول فاطمة: “أطمح أن أكون مذيعة ومصورة، وأؤمن أن لي رسالة يجب أن تصل للعالم عبر الإعلام”.
لم تتوقف فاطمة عن المضي في طريقها رغم كل ما واجهته من تنمر ورفض وظروف اقتصادية صعبة، تؤمن بأن صوتها له قيمة، وأنها خلقت لتكون مؤثرة لا مهمّشة، تختم حديثها قائلة: “لا يوجد مستحيل لمن يؤمن بنفسه. كن قويًا، واثقًا، واصعد نحو هدفك مهما كانت الصعاب. العلم نور، فلا تتوقف عند أول عثرة. استمر، فالله لا يخذل من يجتهد”.
هكذا، تروي فاطمة سمين قصتها، التي كُتب لها أن تكون ضحية العادات، لكن روحها أبت إلا أن تكون بطلة قصة نجاح ملهمة، تضيء الطريق لكل من يعتقد أن الظروف أقوى منه، وهي شهادة حية على أن المرأة اليمنية قادرة على تجاوز أقسى الظروف، متى ما آمنت بنفسها، وحظيت بفرصة للانطلاق.