خلال السنوات العشر الماضية تدهورت العملية التعليمية في اليمن بصورة غير مسبوقة، حتى باتت المدارس عاجزة عن القيام بدورها، مع فصول مكتظة، وأخرى مدمرة، ومعلمين بلا رواتب منذ سنوات، ونتيجة لذلك أنهى آلاف الطلاب مراحلهم الدراسية بلا قدرة حقيقية على القراءة والكتابة، وهو ما شكل فجوة تعليمية كبرى.
في ظل هذا الواقع المأساوي، برزت مبادرات فردية محاولة إحداث فارق، كمبادرة “صوت الريف” التي أطلقها الشاب “أحمد الصالح” في قريته وادي الجنات بمحافظة إب، ليعيد للأطفال نافذة أمل من خلال تعليمهم مهارات القراءة تدريجيًا، ويحول الكتاب من رفاهية مفقودة إلى أداة تمكّنهم من التعلم والفهم.
يقول الصالح لـ”منصة ريف اليمن”: “خلال إجازة عيد الأضحى الماضي، اصطحبت معي إلى قريتي مجموعة قصص كانت بناتي في الصف الرابع قد قرأنها في المدينة حيث أعيش، لكنني فوجئت أن طلاب القرية، بمن فيهم طلاب في الثانوية والإعدادية، عاجزون عن قراءتها بشكل صحيح”.
مواضيع مقترحة
-
التعليم في الريف.. طلاب لا يجيدون القراءة والكتابة
-
الفتيات في ذمار: حرمان قسري من التعليم
-
تعليم النساء في الضالع: “حورية” شابة تكسر قيود الجهل
مبادرة بلا تمويل
ويضيف: “حينها أدركت أن هناك خللا عميقا فبدأت الفكرة بأن أُسهم في تعزيز المسار التعليمي، وبدأت أعلّمهم أساسيات القراءة، ثم أقودهم تدريجيا عبر قصص مناسبة لمستوياتهم حتى يصلوا إلى النصوص المتقدمة، عبر مبادرة تطوعية بلا تمويل ولا مؤسسات داعمة، هدفها البسيط أن تساعد أبناء القرية على امتلاك أول مفاتيح التعلّم وهي القدرة على القراءة”.
خلف هذا المشهد الصغير تختبئ أزمة وطنية أكبر؛ فالتعليم في اليمن يعيش انهيارًا غير مسبوق منذ قرابة عقد من الزمن، وهناك أكثر من 2,426 مدرسة خرجت عن الخدمة وفق تقارير “اليونيسف“؛ بعضها دُمِّر كليًا، وبعضها تحوّل إلى ملاجئ للنازحين أو مقار عسكرية. ومع كل مدرسة تُغلق؛ يُحرم آلاف الأطفال من أبسط حقوقهم.
لم يقف الأمر عند حدود المباني، فمنذ 2016 يعيش عشرات الآلاف من المعلمين بلا رواتب منتظمة، ما دفع الكثيرين إلى ترك المهنة، فيما لجأت مدارس إلى الاستعانة بأشخاص من خارج السلك التربوي، الأمر الذي انعكس مباشرة على جودة التعليم.
يضاف إلى ذلك الاكتظاظ الهائل في الفصول الدراسية بسبب النزوح؛ ففي كثير من المناطق يتجاوز عدد الطلاب خمسين طالبًا في الصف الواحد، وفي صميم الانهيار التعليمي هناك فجوة واضحة؛ فطلاب في المرحلة الإعدادية والثانوية لا يستطيعون قراءة نصوص مخصصة لتلاميذ الصفوف الأولى.

هذه العوامل مجتمعة أدت إلى ما يُعرف عالميًا بـ “فقر التعلّم”، أي عجز الطفل في سن العاشرة عن قراءة نص بسيط وفهمه، ووفق تقارير للبنك الدولي واليونسكو واليونيسف والوكالة الأمريكية للتنمية الدولية (USAID) عام 2022، فإن 70% من أطفال الدول الفقيرة يعانون من هذه المشكلة، أما في اليمن، فالنسبة مرشحة لأن تكون أعلى بكثير بسبب الحرب والانقطاعات التعليمية المستمرة.
بدأ أحمد بتوفير قصص للمبتدئين، ثم انتقل معهم إلى المستوى المتوسط، وأخيرا إلى قصص أكثر تعقيدا ومتقدمة، وبحسب أحمد فإن المفاجأة كانت أن الإقبال تجاوز كل توقعاته، إذ كان يتوقع نحو عشرين طالبا، لكن العدد قفز إلى أكثر من ستين.
من الامتحان إلى التحفيز
مع مرور الوقت، تمكن خمسة وعشرون طالبا وطالبة من قراءة أكثر من ثلاثين قصة متوسطة، والانتقال إلى المستوى المتقدم (خلال ستة أسابيع)، ولا تزال عملية التقدم مستمرة، ويديرها طلاب من الذين استفادوا من التجربة تحت إشراف ومتابعة أحمد.
لم يكتف أحمد بتوزيع القصص، بل صمم برنامجا تدريبيا متكاملا يبدأ بتقييم الطلاب عبر اختبار قراءة لتحديد مستواهم الفعلي، بغض النظر عن صفهم الدراسي، بعد الفرز، جرى توزيع الطلاب على ثلاثة مستويات: تمهيدي، متوسط، متقدم، ولكل مستوى قصص مناسبة وفرها أحمد بتمويل شخصي.
المنهجية اعتمدت على تعليم الطلاب طرق القراءة الفاعلة، والاستماع إلى الطلاب وهم يسردون القصة بأسلوب يعكس فهمهم، وطرح أسئلة من داخل النصوص للتأكد من الفهم مع زيادة صعوبة الأسئلة تدريجيا، وإعادة القراءة عند ضعف مستوى الإتقان.
كما وسع البرنامج ليشمل تحسين الخط والإملاء بعد أن لاحظ ضعفا كبيرا فيهما، ولم يغفل عن عنصر التحفيز؛ إذ كان يعلّق أسماء المتميزين أسبوعيا عند مدخل القرية لرفع المعنويات وزيادة المنافسة، وحتى العادات الاجتماعية التي منعت بعض الفتيات من الحضور لمقر التدريب، وجد لها حلا عبر تكليف فريق ميداني متطوع من الطلاب للنزول إلى بيوتهن واختبارهن.

سرعان ما ظهرت النتائج، يؤكد الأستاذ خليل، مدرس اللغة العربية في المدرسة لـ “منصة ريف اليمن”: “لقد لاحظت تحسنا كبيرا في مستوى طلاب القرية، فقد أصبح مستواهم متقدما على أبناء القرى المجاورة”.
كما رصد مراسلنا، انطباعات الطلاب عن المبادرة لقصص نجاح فردية ملهمة، فقد قالت أماني لـ “منصة ريف اليمن”: “تخليت عن مشاهدة التلفاز وتضييع الوقت في أشياء غير مهمة. أصبح وقتي كله قراءة، وتحسّن مستواي بشكل كبير”.
أما الطالب عاصم، وهو في الصف الرابع، يقول لـ “منصة ريف اليمن”: “ما ناش مصدق أني وصلت لهذا المستوى. أصبحت أقرأ أفضل من طلاب في الإعدادية.” أما عبده، الطالب في الثاني الثانوي، فيؤكد: “لقد تحسنت مهارتي بالقراءة كثيرا، وهذه المبادرة وفرت لي كتبا كنت أتمنى أن أجدها منذ زمن”.
نشاط ثقافي ملهم
لم تكن مبادرة أحمد مجرد نشاط ثقافي عابر، بل مثلت فعل مقاومة ذكيا في وجه أزمة وطنية خانقة، فهي تتصدى مباشرة لجذر المشكلة المتمثل في “فقر التعلّم”، من خلال تزويد الطلاب بمواد قرائية مناسبة، وتدريبهم على الفهم والسرد، وخلق بيئة جماعية محفزة. الأهم من ذلك أن التجربة أثبتت قابليتها للتطبيق في أي قرية يمنية أخرى، لتكون بمثابة نموذج يمكن تكراره وتوسيعه في مناطق متعددة.
إشراك الطلاب المتفوقين كمدربين لم يكن مجرد فكرة تنظيمية، بل خطوة استراتيجية نحو الاستدامة؛ فهؤلاء الطلاب تحولوا إلى قدوات لغيرهم، وأصبحوا جزءا من حلقة تعليمية قادرة على تجديد نفسها بنفسها، حتى في ظل غياب الإمكانات وغياب صاحب المبادرة والاكتفاء بالإشراف والزيارات المؤقتة.
بإصرار أحمد، نجحت مبادرة “صوت الريف” في أن تجعل من القراءة عادة يومية لعشرات الطلاب، لكنها لا تزال حتى اللحظة حبيسة جهود فردية وإمكانات محدودة، فأحمد يدرك أن ما تحقق حتى الآن مجرد بداية، ويعترف بأن حلمه يتجاوز الواقع بكثير، ويقول: “أتمنى أن أكرم الطلاب بشهادات وجوائز، وأن أؤسس لهم مكتبة كبيرة، وأن تتوسع التجربة لتصل إلى القرى المجاورة، لكن ضعف الإمكانات هو العائق الأكبر”.
بريق النجاح انعكس سريعا حتى خارج حدود القرية، حيث بدأ أولياء الأمور في القرى المجاورة بالمطالبة بتكرار التجربة عند أبنائهم، فيما اكتفى بعضهم بالقصص القليلة التي وزعها أحمد، لكنها لم تكن كافية لتلبية الطلب المتزايد، ما يكشف بوضوح أن المبادرة لم تعد حاجة محلية ضيقة، بل صارت مطلبا مجتمعيا أوسع يحتاج إلى غطاء رسمي ودعم من المؤسسات التعليمية والجهات المانحة.
رغم نجاحها، تواجه مبادرة “صوت الريف” سؤالا جوهريا: كيف تستمر وتتوسع؟ الإجابة تبدو بسيطة من حيث الشكل، لكنها عميقة في أثرها، فتوفير مكتبة مجتمعية صغيرة مجهزة بالقصص والروايات المناسبة للمراحل المختلفة كفيل بمضاعفة عدد المستفيدين، كما أن تقديم شهادات تقدير وجوائز للمشاركين من شأنه أن يعزز روح التحدي ويحفّز الطلاب على مواصلة القراءة في القرية.
الأمر يتطلب أيضا تدريب المزيد من المتطوعين القادرين على إدارة الجلسات القرائية والإشراف على الأطفال في القرى المجاورة؛ لضمان استدامة الجهود وعدم توقفها عند حدود قرية واحدة.
يقف أحمد الصالح وأطفاله القراء على مفترق طرق التجربة أثبتت أن التغيير ممكن حتى في أقسى الظروف، وأن القراءة قد تكون أداة مقاومة ذكية في وجه الحرب والحرمان، وكل قصة يقرأها طفل ريفي هي انتصار صغير على الجهل واليأس، وخطوة جديدة نحو جيل مختلف، يملك شغف المعرفة وإرادة التغيير.
ما حققته هذه التجربة يؤكد أن الحلول قد تبدأ من خطوات متواضعة، وأن وجود دعم من مؤسسات التعليم أو منظمات المجتمع المدني أو حتى الأفراد القادرين قد يحول مبادرة شخصية إلى مشروع وطني واسع النطاق، ورغم نجاحها تقف المبادرة منتظرة شراكات أوسع، رسمية أو مجتمعية، حتى تتحول القراءة من مبادرة فردية إلى ثقافة عامة تعيد للتعليم شيئا من عافيته المفقودة.