سُقيا العابرين.. عادة اجتماعية تروي العاطشين

تمثّل رمزًا للتكافل ومرآةً تعكس روح الريف اليمني الأصيل

سُقيا العابرين.. عادة اجتماعية تروي العاطشين

تمثّل رمزًا للتكافل ومرآةً تعكس روح الريف اليمني الأصيل

في طرقات ريف محافظة تعز، حيث الشمس حارقة، والمشي على الأقدام وسيلة الوصول الوحيدة، لا يحتاج العابر إلى متجر أو مال ليشتري الماء؛ إذ سيصادف على جانب الطريق  جالوناً صغيراً فيه ماء وموضوع في الظل، ينتظره ليُرويه بلا مقابل، في مشهد يومي يجسد كرم الناس وبساطتهم وأصالتهم.

ويحرص الأهالي الذين تقع منازلهم بمحاذاة الطرقات على وضع أوعية ماء للشرب -سواء كانت دِببًا أو تراميس- في أماكن يراها كل عابر، من طلاب ورعاة، وفلاحين، ومسافرين وعمال، وما إن تُفرغ تلك الأوعية، حتى يبادر أصحاب البيوت إلى تعبئتها مجددًا، في عادة إنسانية بديعة، وتكافل اجتماعي يبعث الأمل ويغرس في النفوس قيم التكافل والمحبة.

من دبة إلى خزّان

في مدخل قرية الثجاع، الواقعة جنوب مديرية سامع، يبرز المواطن “عبدالعزيز عبده غالب” كأحد نماذج هذا الفعل الإنساني النبيل، فمنذ أكثر من 15 عامًا، وضع دبة ماء صغيرة بجانب منزله، تطوّرت لاحقًا إلى خزان بلاستيكي يملؤه يوميًا من خزان بيته الأرضي.


      مواضيع مقترحة

يقول عبد العزيز لمنصة ريف اليمن: “عدد المارّين في الطريق الجبلي المار بجانب منزلنا يتجاوز خمسين شخصًا يوميًا، ومع الحرب زاد عدد العابرين؛ إذ دفعت كثيرًا إلى استخدام الطريق الجبلي مشيًا على الأقدام، فشعرت أنا وأسرتي بمسؤولية توفير الماء لهم دون انقطاع”.

وعن شعوره في ظل الاستمرار في سقاء العابرين، يقول عبد العزيز: “أشعر أنا وأسرتي بسعادة كبيرة كوننا نساهم في سقاية المارّين بجانب منزلنا، ونحصل منهم على الكثير من الشكر والدعوات، وهذا يُفرحنا ويضاعف سعادتنا، لكن قبل كل شيء، نحن نبتغي وجه الله سبحانه وتعالى، ونسأل الله أن يكتب أجرنا”.

هذه العادة الاجتماعية متواجدة ومنتشرة في الكثير من المناطق الريفية بالمحافظة، وتبقى قائمة حتى في ظلّ شحة المياه، كإحدى صور الكرم والتكافل التي ما زالت صامدة رغم الواقع المرير.

سُقيا العابرين.. عادة اجتماعية تروي العطش والقلوب في ريف تعز
يحرص الأهالي على وضع أوعية ماء للشرب للعابرين في عادة إنسانية بديعة وتكافل اجتماعي يبعث الأمل (ريف اليمن)

الطالبة الجامعية “أحلام جميل”، من مديرية المعافر، أكدت أن هذه الظاهرة الإنسانية ليست غريبة في قرى تعز، وتقول: “تخيل أن تسير لساعات تحت الشمس، ثم تجد فجأة دبة ماء أو جرة على الطريق.. تشعر كأن أحدًا أنقذك من العطش. لا يمكن وصف هذا الشعور إلا بالامتنان العميق”.

رمز للتكافل والكرم

وفي رسالة لأصحاب تلك البيوت، قالت أحلام: “بارك الله فيكم وكتب أجركم، وشكرًا لكم من القلب، وتأكدوا أن ما تفعلونه ليس بسيطًا، بل هو عمل إنساني يبعث الأمل، ويُشعر العابرين أن الناس ما زالوا أهل جود وكرم، إنه عمل بسيط في مظهره، لكنه عظيم في أثره”.

من جانبه، قال الباحث الاجتماعي “ميلاد رسام” إن عادة “سقيا العابرين” تمثّل رمزًا للتكافل، ومرآةً تعكس روح الريف اليمني الأصيل. وأضاف في حديثه لمنصة ريف اليمن: هذه العادة ليست مجرد تصرف عابر بل “رمز اجتماعي” يحمل معانٍ يتشارك الناس في فهمها، وتمثل تعبيرًا عن كرم الناس وبساطتهم وروحهم الطيبة تجاه كل عابر سبيل سواء كان فلاحاً، أو طالباً، أو مسافراً، أو راعياً.


“سقيا العابرين ليست مجرد تصرف عابر بل “رمز اجتماعي” يحمل معانٍ يتشارك الناس في فهمها، وتمثل تعبيرًا عن كرم الناس وبساطتهم وروحهم الطيبة تجاه كل عابر سبيل”


وتابع: “ما يفعله الناس في تلك القرى ليس تقليدًا عابرًا، بل ممارسة ذات بعد ثقافي وروحي، تعيد التأكيد على أصالة الشعب اليمني وطيبته، رغم الظروف الصعبة وشح المياه”.

ولفت إلى أن هذا الفعل الاجتماعي تنعكس فيه قيم التعاون والتكافل بين الناس، وهي أشبه برسالة صامتة تقول: “أهلاً بك أيها العابر اشرب ماءك وارتوِ وأنت معزز ومكرَّم”، كما أنها دليل واضح على احترام الناس للغريب وللمسافر وعدم تركه يشعر بأنه وحده، وتؤكد حقيقة الشعب اليمني وأصالته التي طالما اشتهر بها، وهي سمات الجود، والكرم، والبساطة، والتواضع.

سُقيا العابرين.. عادة اجتماعية تروي العطش والقلوب في ريف تعز
ابتكر اليمنيون طريقا للتبريد منها تغليف العبوات البلاستيكية بقطعة من الصوف أو القطن ووضعها في مكان لا تصل إليه الشمس (ريف اليمن)

وتعد صناعة الفخار في اليمن عريقة وتمتد إلى آلاف السنين، ومازال اليمنيون يحتفظون بهذه الصنعة في الأرياف اليمنية، ويعود تاريخ بدايتها الى 2600 قبل الميلاد، وفق مصادر تاريخية. وتشتهر مناطق تهامة بصناعتها في مناطق “حيس” و”زبيد” و”الجراحي” و”بيت الفقيه”.


سقيا العابرين عادة تزرع في القلوب حب التعاون ومساعدة الآخرين دون انتظار مقابل، وتسهم في تربّية الأطفال على قيم الكرم والعطاء


وابتكر اليمنيون طريقة أخرى للتبريد؛ وذلك عبر تغليف العبوات البلاستيكية بقطعة من الصوف أو القطن يتم رشها في الماء، ووضع العبوة في مكان لا تصل إليه الشمس إما في سطح البيت أو الشباك، أو ما يسمى بـ”الشاقوص” ليصبح الماء بارداً كما لو تم وضعه في الثلاجة.

حب التعاون ومساعدة الآخرين

وعن مدى تأثيرها على المجتمع ككل، أوضح الباحث الاجتماعي ميلاد رسام، أن التأثير كبير وإن كان بسيطاً في الظاهر، فهي تعلّم الناس الثقة ببعضهم، حين يضع أحدهم الماء دون أن يخشى أن يُساء استخدامه، ويتفاعل الآخر عابر السبيل مع هذا المشهد فيشرب الماء ثم يعيد الكوب إلى مكانه فهو هنا يدخل في “موقف اجتماعي بسيط” يعزز الشعور بالثقة والانتماء.

ولفت إلى أن هذه العادة تُسهم في بناء “صورة الذات” لدى الفرد، إذ إن الأهالي يرون أنفسهم كرماء وأهل نخوة، فيما العابرون يشعرون أن المجتمع يرحب بهم ويقدرهم، وأن أهل هذه المنطقة كرماء وطيبون، وهذه المعاني المتبادلة تعيد إنتاج القيم الاجتماعية باستمرار، منوها بأن عادة سقيا العابرين تزرع في القلوب حب التعاون ومساعدة الآخرين دون انتظار مقابل، وتسهم في تربّية الأطفال على قيم الكرم والعطاء، وهي القيم التي امتاز بها أبناء اليمن منذ القدم حتى أصبحت كتركة يتوارثها الأجيال.

شارك الموضوع عبر:
الكاتب

مواضيع مقترحة: