تُعد ساقية جبلة في محافظة إب وسط اليمن، إنجازاً هندسياً ومعلماً تاريخياً شيدته الملكة أروى بنت أحمد الصليحي قبل أكثر من تسعة قرون، وشاهداً على حنكة المرأة اليمنية حتى وقتنا الحاضر، فهي تمتد قرابة ستة كيلومترات، بدءاً من جبل التعكّر وصولاً إلى قصر الملكة أروى والجامع الكبير في مدينة جبلة.
شيدت الساقية بأسلوب هندسي بديع من حيث نحت الصخور في المنحدرات الجبلية الصعبة؛ لضمان انسياب الماء بقوة دفع مثالية عبر مسارها الطويل والمتعرج، بما في ذلك جريانها بشكل لولبي في بعض الأجزاء، وكان الهدف الأساسي لهذا المشروع العملاق هو إيصال مياه الشرب النقية إلى كل منازل مدينة جِبلة، وذلك خلال فترة حكم الملكة أروى للدولة الصليحية (1085 – 1138 ميلادية).
مشروع هندسي تراثي
يوضح الدليل في الجامع الكبير ومتحف الملكة أروى، “هشام الجشاعي”، أن تشييد الملكة أروى للكثير من الساقيات ومنها ساقية جبلة، تبقى شاهدة على هدفها المتمثل بتأسيس دولة قوية، إذ يُعد الماء أحد أهم ركائز بناء الدول واستقرارها.
مواضيع مقترحة
-
كيف أوجد اليمنيون بدائل لتبريد الماء وحفظ أطعمتهم؟
-
نساء الضالع يتحملن عبئاً يومياً للحصول على الماء
-
ماذا لو جفّ آخر بئر مياه في اليمن؟
يقول الجشاعي لـ “منصة ريف اليمن” إن “ساقية جبلة مشروع هندسي تقني وتراثي تاريخي مرموق وكأنها منظومة تقنية ري حديثة، تظل شاهدة على إبداع الدولة الصليحية، وإنجازات الملكة أروى”، ولا تزال الساقية قائمة حتى يومنا هذا رغم تعرضها للخراب والإهمال.
ويضيف: “ساقية جبلة التي تم تشييدها من الأحجار والقضاض، الممتدة من على قمم الجبال المرتفعة وفي بطون الأودية وعلى المنحدرات المتعرجة ووسط الصخور، تمثل وجهة سياحية قائمة بذاتها لمحبي الثقافة والتراث والريف اليمني الأصيل”.
وتابع: لكن مع الإهمال المتعمد من قبل الدولة وعوامل التعرية تتعرض الساقية بين الفينة والأخرى للانهيارات الجزئية، ورغم أن الساقية لديها مخصص مالي ضمن نفقة أوقاف الملكة أروى التي خصصت جزءاً منه لترميم الساقية، إلا أن هناك مبادرات مجتمعية وفردية تقوم بعملية الترميم”.
كانت مدينة جبلة بلدة عامرة أسسها الأمير عبد الله محمد الصليحي عام (458هـ) (1066م) وتُعرف باسم مدينة النهرين لتوسطها نهرين كبيرين دائمي الجريان على مدار العام، وما تزال من أجمل المدن اليمنية طبيعةً، وأطيبها هواءً، وأعذبها ماءً، وازدهرت بعد اتخاذها عاصمة للدولة الصليحية، بحسب كتاب معجم بلدان اليمن وقبائلها للحجري.
تجدر الإشارة إلى أن الملكة أروى بنت أحمد الصليحي تعد من النساء القلائل اللاتي بلغن منصباً رفيعاً وقيادياً في العصر الإسلامي، حيث جمعت بين القيادة الدينية والسياسية، مما جعل منها الشخصية الأكثر دبلوماسية وحضوراً في عهد المملكة الصليحية التي اتخذت من مدينة جبلة التاريخية عاصمة لها، كما لقبت ببلقيس الصغرى نظراً لرجاحة عقلها وذكائها، وفقا لما ورد في كتاب موسوعة سفير للتاريخ الإسلامي.
الساقية دلالة تاريخية
تعتبر ساقية الملكة أروى دلالة تاريخية تمثل شاهدا على عظمة تلك الحقبة من تاريخ اليمن وخاصة الدولة الصليحية؛ إذ إن المشروع الذي يمتد من قرية حديد مرورا بعزلة الاسلاف وصولا إلى مدينة جبلة، يعد واحدا من المشاريع الجريئة التي مثلت معجزة في الهندسة المعمارية، وُعدَّت سابقة في مجال البناء، ومغامرة في إنشاء مثل هكذا مشاريع”.
يقول “إبراهيم البعداني”، مسؤول التوثيق الإعلامي السابق في مكتب هيئة الآثار والمتاحف بمحافظة إب: “شكلت ساقية جبلة تحدياً كبيراً في إتمامها، ومن المستحيل إتمامه، خاصة وأن موقع الساقية يمر بمنحدرات وطبيعة جغرافية برغم ذلك تم العمل عليها بحرفية ودقة متناهية”.
ومن وجهة نظر البعداني فإن “نجاح هذا المشروع كان إضافة أخرى للإنجازات التي حققتها الدولة الصليحية، وبدأت كثير من الدويلات التي تعاقبت معها بإنشاء مشاريع مشابهة”. وضمن حديثه لـ” منصة ريف اليمن” أكد أن “ساقية السيدة أروى تعرضت للإهمال في فترات متعددة فكان الأهالي حينها سباقون في ترميمها، إلا أن الإهمال يطالها بين فترة وأخرى، ومع ذلك لا تزال بحالة جيدة”.
إهمال متعاقب
“محسن الخولاني (78 عاما)” أحد المسنين الذين يقطنون جبلة يشكو كيف كانت “ساقية جبلة” قبل نحو عقدين من الزمان وكيف أصبح حالها اليوم، بعد استبدال شجرة القات بدلا عن زراعة الحبوب والثمار.
في حديثه لـ “منصة ريف اليمن” يقول الخولاني الذي أفنى غالبية عمره في مجال البناء: “لم نكن نتوقع أن مياه هذا المشروع الممتد منذ قرون ستنقطع عن المدينة، وستحرم منه غالبية الأسر، حتى في موسم هطول الأمطار، بسبب شجرة القات”.
أما البعداني فأشار إلى أن الساقية حاليا بحاجة إلى متابعة واهتمام من الجهات المختصة لحمايتها من العبث؛ كونها من المعالم التاريخية التي لا تزال قائمة حتى وقتنا الحالي. مشددًا على أن الدولة ممثلة بالهيئة العامة للآثار والهيئة العامة للحفاظ على المدن التاريخية ملزمة بل ومسؤولة عن تعرض الساقية للإهمال أو التخريب، وعلى المجتمع المحلي الحفاظ عليها كونها تمثل واجهة وموروثاً حضارياً لليمن.