في الأرياف اليمنية، لا تقتصر الحياة على البساطة في المعيشة، بل تتجلى فيها قيم التكافل الاجتماعي بأبهى صورها، حيث يُصبح العطاء اليومي أسلوب حياة يربط بين الجيران، ويعزز من قوة النسيج المجتمعي، بما يؤدي إلى تعميق قيم التعاون والرحمة والعطاء.
من بين هذه الأساليب التي تُبرز روح العطاء، “حقين الأبقار” الذي يبزر كتقليد يومي متوارث في الأرياف حيث تقوم الأسر التي تمتلك أبقارًا بتوزيع معظم حقينها لجيرانها وأقاربها مجانًا، في عادة أصيلة تغذي الروح قبل أن تشبع الجسد.
ويُعد الحقين عنصرًا أساسيًا في المائدة الريفية، إذ يدخل في العديد من الوجبات اليومية، ويُستهلك غالبًا مع العصيد أو الخبز أو لعمل الفتة، وعلى الرغم من بساطته، إلا ان قيمته الغذائية ودوره في تقوية الروابط الاجتماعية يجعلان منه أكثر من مجرد طعام، بل رمزًا للعطاء والمحبة.
مواضيع مقترحة
- تربية الأبقار.. رافد اقتصادي ينحسر بالأرياف اليمنية
- في قُرى اليمن: البقرة أُمٌّ ثانية في الأسرة
- السمن واللبن.. هدايا الريف لسكان المُدن
في معظم أرياف تعز، يهتم العديد من الأهالي بتربية الأبقار، ويعتبرون حقينها نعمة يجب أن تصل إلى الجميع، ما يعني أن معظم الأسر التي لا تمتلك أبقارًا تستفيد يوميًا من هذا العطاء، مما يخفف عنها عبء شراء الزبادي أو الحقين من البقالات، لاسيما في ظل الظروف الاقتصادية الصعبة.
حقين الأبقار: عطاء مجّاني
تقول الناشطة المجتمعية داليا محمد:”منذ أن وعيت على هذه الدنيا، وجدنا التعاون بين الجيران في مناطقنا الريفية جزءًا أساسيا من الحياة اليومية، ومشاركة الموارد مثل الحليب والحقين، وأعلاف المواشي وغيره، من العادات والتقاليد المتجذّرة، وباتت واجبا مجتمعيًا”.
وأضافت محمد التي تنحدر من قرية الصياحي في الضباب غربي تعز:”عدد الأسر التي تستفيد من حقين أبقارهم ليس متساويًا كل يوم، فمرات العدد يزيد أو ينقص بحسب كمية إنتاج البقرة، ولأن لدينا أكثر من بقرة، فأحيانا يتوزع الحقين إلى أكثر من عشرين بيتًا، وفي بعض الأيام ينقص إلى النصف أو الثلث”.
وبخصوص طريقة استخلاص الحقين، فإنه يتم حلب البقرة في اليوم مرتين إلى ثلاث مرات، ويُجمع اللبن في وعاء إلى اليوم التالي، حيث يتحوّل اللبن إلى قطيب، ثم يتم رعشه داخل “الدُبية” لمدة تزيد عن ساعة، فيتحول إلى حقين يطفو عليه الدُهن، فيتم إخراج الدُهُن الذي يتحول إلى سمن لاحقا، فيما الحقين يتم توزيع معظمه للجيران ومن يأتوا للحصول عليه.
احتياج مليء بالحب والاحترام
من جهته قال صدّيق الأحمدي، طالب إعلام بجامعة تعز،:”في طفولتي، كانت أمي كل يوم تعطيني قارورة فارغة مكبي (تكبيها بدخان عود الشهس)، وترسلني إلى إحدى الأسر التي لديها بقرة في قريتنا، كي أحصل على الحقين، وكان لدينا العديد من الخيارات، إذا لم نحصل على الحقين من أسرة معينة أو نأتي وقد كمل الحقين عندهم، نذهب لأسرة أخرى، ومعظم الأيام كنا نحصل على الحقين”.

وأضاف خلال حديثه لمنصة ريف: “حاليًا أمي ترسل أولاد أخي لجلب الحقين من عند أي أسرة من الجيران الذين لديهم أبقار، فالحقين يُعدّ مهما جدا في وجباتنا اليومية، سواء سبغ للعصيد، أو نفعل منه وجبة الفتوت، أو نتناوله مع الخبز”.
وأردف الأحمدي:” نشعر بالامتنان والاحترام والتقدير والحب لأصحاب الأبقار، لأنهم يمنحونا الحقين، وبذلك يخففون عنا أعباء مالية، لأننا نستغني عن شراء الزبادي من البقالات.
وتُقدّر أحدث البيانات الصادرة عن إدارة الإحصاء والمعلومات الزراعية في وزارة الزراعة حجم الثروة الحيوانية في اليمن لعام 2021 بنحو 20.9 مليون رأس، منها مليون و250 ألف بقرة، بعد أن كان عددها خلال عام 2015 1721.900 وفقا للمنظمة العربية للتنمية الزراعية.
قراءة سيسيولوجية
الصحفي والباحث الاجتماعي محمد السامعي، قال إن تقديم حقين الأبقار بلا مقابل كجزء من التكافل الاجتماعي في ريف تعز، يعد من العادات والتقاليد اليمنية الأصيلة المتوارثة منذ زمن طويل وتدل سيسيولوجيا على مدى التكافل والتعاون الاجتماعي بين اليمنيين الذين يغلب عليهم الفقر والتشابه إقتصاديا واجتماعيا وثقافيا.
وأضاف السامعي أن هذه العادة منتشرة عادة في المجتمع الريفي غير المتمدن والذي يغلب عليه التجانس والتشابه والتأثير والتأثر، لافتا إلى أن تقديم الحقين للجيران والأقارب بدون مقابل يعتبره البعض عادة اجتماعية أصيلة تدل على التكاتف والتعاون وثمة من يعتقد أن هذه العادة أيضا إسلامية حميدة تدل على الإيثار والتراحم والتآلف بين سكان الريف.
وبخصوص الدلالات الاجتماعية لهذه الممارسات على العلاقات داخل المجتمع الريفي، أكد السامعي أن هذه العادة الأصيلة تعزز من العلاقات الاجتماعية بما يؤدي إلى صنع عمليات اجتماعية إيجابية وحميدة مثل التعاون بدلا من التنافس والتكاتف بدلا من الصراع، وعلى الرغم من بساطتها إلا أنها تكافح الفقر جزئيا، فشراء الحقين على سبيل المثال أصبح يكلف مبلغا كبيرا بالنسبة للأسر المتعففة.
وعن مدى تأثر هذه العادات بالتغيرات الاقتصادية أو الثقافية، أشار إلى أن هذا التغير مرهون بمدى تغير طبيعة المجتمع الريفي إلى مجتمع مدني فكلما توسع القطاع المدني ستنحسر هذه العادة كثيرا، والأمر أيضا مرتبط بالحفاظ على تربية الأبقار وهذا ما قد نراه بأنه في تراجع نتيجة تغلب المسار والعادات المدنية في بعض المناطق.
تكافل إجتماعي
فيما ترى الناشطة المجتمعية حنين الزكري، أن توزيع الحقين بلا مقابل يشجع التبادل بين الأسر والجيران في الأطعمة، ويحفز الزيارات والسؤال عن الحال ومعرفة من ينقصه شيء من الأسر الفقيرة، كما أن بعض الأسر المستفيدة من الحقين تذهب ببقايا الأطعمة لتلك الأبقار التي يستفيدون منها الحقين.
وأضافت لمنصة ريف اليمن، أن هذه العادات تسهم في تعزيز الشعور بالانتماء للمجتمع، لافتة إلى أن المستفيدين من الحقين يُكنّون تقديرا كبيرا للمنزل الذين يرسل الحقين، بالإضافة إلى أن هذه العادات تترسّخ عند الأطفال، وتزرع بينهم قيم التعاون والرحمة والعطاء.
تحدّيات تهدد العادة الجميلة
وفق حنين الزكري فإنه بفعل الأوضاع الاقتصادية والتحوّل نحو المدينة، تناقص عدد الأسر المهتمة بتربية الأبقار والمواشي بشكل كبير، حتى أن بعض الأسر تذهب بجزء من حقينها للبقالات، لبيعه، كي تحصل على مبلغ مالي لشراء العلف للأبقار.
فيما أشارت الناشطة داليا محمد، إلى إن هناك العديد من التحديات تقف أمام استمرار هذه العادات المجتمعية، حيث ظهرت خلال فترة الحرب والحصار الذي تعانيه تعز منذ عشر سنوات، وأبرزها فقدان المراعي وغلاء أسعار المكملات الغذائية للمواشي، وندرة الأخصائيين البيطريين.
إضافة إلى أنه في المناطق القريبة من خطوط التماس، تعرضت المواشي للاستهداف بالقنص أو القذائف أو حتى لانفجار الألغام بها، وهذه كلها من التحديات التي تقود لنقص عدد المواد، وبالتالي تراجع إنتاج الحليب الذي يصبح حقين، وفقا لداليا.
ورغم تغير أنماط الحياة وتراجع بعض العادات الريفية، فضلا عن التحديات، لا يزال “حقين الأبقار” صامدًا كرمز للتعاون الإنساني في قرى تعز، ومع تزايد الأعباء الاقتصادية، تزداد الحاجة إلى الحفاظ على مثل هذه التقاليد التي تساهم في التخفيف من معاناة الأسر الفقيرة، وتعزز الروابط الاجتماعية بين أفراد المجتمع.
ولطالما شكّل “حقين الأبقار” صورة مشرقة من التكافل الاجتماعي الذي ميز الحياة الريفية، وعكس جانبًا من القيم الإنسانية التي تحتاجها المجتمعات اليوم أكثر من أي وقت مضى، فهل يمكن لهذا العطاء البسيط أن يبقى مستمرًا، رغم تغيرات الزمن.