حضرموت تحتفي بكنزها الأخضر

أقيم في سيئون المهرجان السنوي للنخيل والتمور بمشاركة 42 جمعية ومؤسسة

حضرموت تحتفي بكنزها الأخضر

أقيم في سيئون المهرجان السنوي للنخيل والتمور بمشاركة 42 جمعية ومؤسسة

لم تعد النخلة في حضرموت شرقي اليمن مجرد شجرة مثمرة، بل تحولت إلى هوية وذاكرة جماعية، تغلغلت في حياة الناس ومعيشتهم، وأسهمت عبر قرون في حفظ الأمن الغذائي وبناء البيوت وصناعة الأدوات اليومية، ومن تمرها عاش الأهالي في الرخاء والشدائد، فيما شكّلت جذوعها وسعفها أساسًا للحرف التقليدية.

منتصف أغسطس الجاري، تحولت مدينة سيئون، قلب وادي حضرموت، إلى ساحة كرنفالية نابضة بالحياة مع انطلاق فعاليات المهرجان الثاني للنخيل والتمور، للاحتفاء بواحدة من أقدم وأهم الثمار في تاريخ اليمن الزراعي عموما وحضرموت على وجه الخصوص، إذ تُعد أشجار النخيل الأكثر انتشارا في معظم مديريات المحافظة.

المهرجان الذي نظمته السلطة المحلية بوادي حضرموت والصحراء بإشراف مكتب وزارة الزراعة، تحوّل إلى كرنفال شعبي وزراعي نابض، اجتمع فيه المزارعون والحرفيون والمهتمون بالزراعة والباحثون، في مشهد يؤكد أن النخلة ليست مجرد شجرة، بل هويةٌ ضاربة في جذور الإنسان الحضرمي.


     مواضيع مقترحة

حضرموت تحتفي بكنزها الأخضر
عرض في مهرجان النخيل أنواع التمور التي تنتجها محافظة حضرموت (ريف اليمن)

كرنفال شعبي وتفاعل كبير

حظي المهرجان بتفاعل كبير، وشارك فيه أكثر من 42 مؤسسة وجمعية ومزارعًا ومصانع، واستمر ثلاثة أيام، بهدف تعزيز وتنمية قطاع النخيل والتمور، وتشجيع الاستثمار الزراعي والسياحي ورفع مستوى التثقيف الزراعي والمجتمعي.

كما شمل فعاليات متنوعة بين ندوات علمية، ورش عمل، حلقات نقاش، أمسيات توعوية، معرض للنخيل، وخيمة تسويقية، إضافة إلى زيارات إرشادية ميدانية استهدفت المزارعين، وسط دعوات إلى فتح أسواق جديدة للمنتج المحلي، وتمكين القطاع النسوي، وتحسين البيئة بزيادة الرقعة الخضراء.

المهرجان، وفق الدكتور محمد سالم بخضر – أستاذ العلوم المالية والمصرفية الإسلامية بجامعة سيئون – “ليس مجرد فعالية زراعية، بل رسالة للحفاظ على شجرة النخيل، وزيادة الوعي بزراعتها وتسويق تمورها، لافتا أن النخلة تحتل مكانة سامية في التاريخ الإسلامي كونها من أبرز الثمار التي ذكرت في القرآن الكريم، ما يعكس الأهمية الاستراتيجية لهذه الشجرة في حياة أفراد المجتمع، بما تحمله من قيمة اقتصادية ومادية وصحية.”

ويضيف بخضر خلال حديثه لمنصة ريف اليمن:”يشكل النخيل بوادي حضرموت أمنًا غذائيًا، إذ تعد النخلة مورداً اقتصادياً هامًا. كما تدخل أجزاء النخلة في صناعات غذائية متنوعة، مثل الدبس، وعسل التمر، وإنتاج السكر السائل، والخل الطبيعي، وخميرة الخبز، لكنه نوّه إلى تراجع إنتاج النخلة الحضرمية نتيجة ضعف التمويل، وارتفاع التكاليف، وتناقص العمالة، والزحف العمراني.

حضرموت تحتفي بكنزها الأخضر
جانب من الحضور في مهرجان النخيل والتمور بمدينة سيئون – حضرموت (ريف اليمن)

تعزيز الأمن الغذائي

من جهته قال مدير مكتب الزراعة بوادي حضرموت والصحراء المهندس البرك سالم العامري، إن المهرجان يمثل منبرًا مهمًا لإبراز جودة تمور وادي حضرموت، وهو مناسبة لتكريم جهود المزارعين وتشجيعهم على مواصلة العمل وتحفيز الابتكار.

وأضاف العامري لـ”منصة ريف اليمن”، تنظيم المهرجان يأتي ضمن رؤية الوزارة لتعزيز الأمن الغذائي ودعم الاستثمار الزراعي، مشيدًا بالدعم الذي تقدمه قيادة الوزارة والسلطة المحلية لإنجاح هذا الحدث.

أما أحمد كرامة باحمالة، رئيس مؤسسة الرناد للتنمية الثقافية، فأكد أن المهرجان يسهم في “حفظ التراث ونقله للأجيال، عبر جمع المزارعين والحرفيين والجمهور لتبادل الخبرات وعرض المنتجات بما يضمن استمرار التراث وتطويره”.

ويُعد قطاع النخيل في حضرموت من الركائز الحيوية للاقتصاد الزراعي، إذ يجمع بين البعد الاقتصادي والغذائي والتراثي. فإنتاج التمور لا يقتصر على كونه مصدر دخل للمزارعين، بل يمثل أيضًا إرثًا زراعيًا متجذرًا في وجدان المجتمع الحضرمي، يرفد الأمن الغذائي ويفتح آفاقًا واسعة للاستثمار والصناعات المرافقة.

ويلفت باحمالة في هذا السياق: أن “النخلة كانت منقذًا للحضارم أيام المجاعة التي اجتاحت حضرموت في الأربعينيات، فهي رمز للاكتفاء الذاتي.” كما يؤكد الأستاذ شكري باحريش، مهتم بالتراث والموروث الشعبي، أن التمور كانت وجبة الحضارم الأساسية، إذ كان يأكل الفرد الواحد حوالي 15 كيلوغرامًا من التمر يوميًا.

علاوة على كونه مصدر غذائي، تدخل أجزاء النخلة في أعمال حرفية كثيرة. يقول الدكتور بخضر: “يدخل جذع النخل في إنتاج الأخشاب، ويستخدم سعف النخيل في صناعة نوع من السلال اليدوية”.

ويضيف كلا من باحريش وباحمالة:”يدخل الخوص – أوراق النخيل – في صناعة الحصير، ومحامل الخبز، والمكانس والمراوح اليدوية، وفرش الموتى. كما يُسحق نواء التمر لتغذية المواشي، وتستخدم الفخطة، وهي بداية تكوين التمر، والكرازم، وهي ثاني بدايات التمرة، لتعزيز الصحة وتقوية الجسم”.

مواجهة التحديات

أما ما يتعلق بثمرة التمر، يضيف باحريش قائلًا:”لم يترك الحضارم جزءًا من النخلة إلا ووظفوه في حياتهم اليومية، فالتمر كان غذاءهم الأثير، وتفننوا في تقديمه بأشكال متنوعة؛ من النثر، وهو التمر الكامل بنواته، إلى الشرقة التي تُزال نواتها وتُقدَّم مقسومة، مرورًا بالصيم الذي يُضغط يدويًا أو يُطحن بآلات حديثة، وصولًا إلى المريس، وهو عصير التمر بالماء الذي اشتهر كشراب مغذٍ وعلاج للحامل والمريض، ومقوٍ لعضلات الجسم.”

ويؤكد رامي البيتي، مزارع من مدينة تريم، أن زراعة النخيل تراجعت في السنوات الأخيرة بسبب الآفات الحشرية، غياب الدعم، واضطراب المناخ. ويعلق المهندس الزراعي سالم راجي باكربشات، مدير مكتب الزراعة والري بمديرية دوعن بالقول:”مثل هذه الفعاليات تعيد للنخلة أهميتها وتساهم في مواجهة تحديات تراجع إنتاجها وزراعتها”.


ارتبطت النخلة في حضرموت ارتباطًا وثيقًا بحياة الناس ومعيشتهم، وتغلغلت في أمثالهم وأشعارهم. يقول باحمالة: “النخلة رمز للحياة والصمود والعطاء، وتجسدت في الشعر والأمثال والحكايات كمصدر للخير والبركة.” ويضيف باحريش أن الثقافة الحضرمية ارتبطت بالنخلة وثمرتها التمر، حتى أن الشاعر السيد عبدالرحمن بن شهاب نظم قصيدته الشهيرة: “ما شي كما التمر في الدار”.

وهنا تبرز مؤلفات كثيرة قديمة ومعاصرة توظف النخلة رمزيًا في العمق الحضري والثقافي منها على سبيل المثال لا الحصر, قصيدة “نخلة الروح” للدكتور جنيد الجنيد، و ديوان “تحت ظل النخلة” للدكتور عمر علوي بن شهاب.

اختتم المهرجان بغرس فسائل نخيل ضمن مبادرة “في بيئتنا نخلة” التي تستهدف زراعة 3500 نخلة لتعزيز الغطاء النباتي. وأكد وكيل محافظة حضرموت لشؤون مديريات الوادي والصحراء، عامر العامري، أن “المحافظة تولي اهتمامًا بتوسيع زراعة النخيل لمواجهة التحديات وضمان استدامة الإنتاج.”

وفي أجواء احتفالية، جرى تكريم المزارعين والجهات الداعمة، وعبّر المشاركون عن استفادتهم من تكوين علاقات اجتماعية، وتبادل الخبرات، وتعزيز التسويق الجماعي، وتلقي فسائل النخيل لتوسيع الزراعة، ليظل المهرجان شاهدًا على أن النخلة في حضرموت ليست مجرد شجرة، بل رمز للحياة والصمود، وركيزة لتراث اقتصادي وثقافي متجدد.

شارك الموضوع عبر:

الكاتب

    مواضيع مقترحة: