لا يزال الحزن يخيم على قرية البرحة الواقعة بعزلة الشراجة في مديرية جبل حبشي غرب تعز، منذ الأربعاء الماضي، هناك حيث انطفأت ضحكات ثلاث فتيات شقيقات، بعدما غمرهن الماء أثناء محاولتهن جلبه من خزان مكشوف لم تعرف أسرتهن أنه سيخطفهن إلى الأبد.
لم تكن الفتيات الثلاث سوى أطفال في ربيع العمر، يحملن أوعية الماء الصغيرة كما اعتدن كل صباح، غير أن تلك الرحلة القصيرة تحولت إلى مأساة غيرت ملامح القرية، وتركت في قلوب الأهالي وجعا لا ينسى.
ذلك الصباح لم يكن مختلفا عن غيره بالنسبة لأهالي البرحة، فاليوم يبدأ عادة بمشوار الماء؛ رحلة النساء والفتيات اليومية نحو الخزانات لجلب ما يسدّ العطش. لكن هذا اليوم حمل في طياته ما لم تتخيله القرية الصغيرة، يوما أسود كتب في ذاكرتها إلى الأبد.
مواضيع ذات صلة
-
حجة.. الآبار المكشوفة كابوس يؤرق حياة السكان
-
ضحايا آبار المياه في اليمن: الموت اختناقاً
-
الاختناق داخل آبار المياه: موت صامت في الأرياف
حين يتحول الماء إلى فاجعة
صباح ذلك اليوم خرجت ثلاث فتيات صغيرات من أسرة واحدة -إخلاص (9 أعوام)، ورود (13 عامًا)، وميمونة (6 أعوام)- يحملن أوعية الماء على أمل العودة إلى المنزل كما في كل مرة، لكن القدر كان أسرع من خطواتهن الصغيرة، سقطت الفتيات داخل الخزان المائي القريب من منزل الأسرة، ولم ينج منهن أحد.
كانت الأسرة حينها منشغلة بإسعاف طفلة مريضة، وعند عودتها إلى المنزل كان المشهد مفزعا: الخزان الذي بناه الأب ليكون مصدر حياة للأسرة، تحول إلى فخ قاتل أودى بأغلى ما يملك.
يقول الشيخ “رشيد ناجي”، أحد وجهاء القرية: “عندما خرج أفراد أسرة ماجد عبدالله محمد حسن لإسعاف طفلة لهم كانت مريضة، لم يتخيلوا أن عودتهم ستقودهم إلى هذه الفاجعة؛ وجدوا الفتيات الثلاث غارقات في الخزان الذي لم يكن قد اكتمل بعد أو جرى تغطيته، كان الخزان مشروع حياة، لكنه أصبح سببا للموت”.

يؤكد مدير مكتب الإعلام في مديرية جبل حبشي، “صفوان الجبيحي”، لـ”منصة ريف اليمن”، أن الفتيات الثلاث من أسرة ماجد حسن، وقد سقطن في خزان المياه أثناء محاولتهن جلب الماء لأسرتهن، مشيرا إلى أن التحقيقات الأولية ترجح أن الحادثة وقعت نتيجة انزلاق غير مقصود أثناء اقترابهن من فتحة الخزان.
كانت القرية على موعد مع مأساة خيمت على بيوتها جميعا، فبينما تحاول الأمهات التماسك أمام أطفالهن، تتردد في الأذهان صور الفتيات الثلاث، وهنّ يغادرن المنزل في لحظاتهن الأخيرة.
صدى الفقد ووجع القلوب
يقول الناشط المجتمعي “بشير المخمري”، وهو أحد أبناء المنطقة، بصوت يملؤه الأسى: “انتهت حياة الثلاث الفتيات في أحد خزانات المياه بكارثةٍ لا تُحتمل. ذهبن دون وداع، ولم يستطع الأهالي إنقاذهن. لا أحد يعلم كيف حدث الغرق بالتحديد، فالأسرة كانت خارج المنزل، وعندما عادت لم تجد البنات، بحثت عنهن طويلًا حتى وجدتهن داخل الخزان”.
ويضيف المخمري: “ثلاث زهرات انطفأن بلمح البصر، تاركاتٍ خلفهن وجعا لا يوصف، إنها فاجعة تهز الضمير الإنساني، وصرخة تنبيه يجب أن توقظ الجميع: كم من أرواح بريئة فقدناها في مصائد الخزانات المكشوفة في ريفنا؟”.
ودعا إلى ضرورة تأمين الخزانات والآبار المكشوفة في القرى والأرياف، وتنفيذ حملات توعية عاجلة للأسر والأطفال حول مخاطرها، مؤكدًا أن “قطرات الماء لا يجب أن تكون سببًا للموت”.
تعاني أكثر المناطق اليمنية من غياب المشاريع الأساسية والخدمية وربطها بشبكات المياه، ما يجبر الأسر إلى البحث عن مصادر المياه في المرتفعات الشاهقة والسدود المكشوفة والخزانات المجاورة للمنازل التي تكون عادة خطيرة على حياة النساء اللواتي لا يستطعن السيطرة على أنفسهن إذا ما تعرضن لحوادث سقوط.

قرية البرحة ليست سوى نموذج من عشرات القرى اليمنية التي تعيش خارج خارطة الخدمات الأساسية، ويقدّر سكانها بنحو 500 نسمة، ويواجهون صعوبات يومية في الحصول على المياه، نتيجة غياب شبكات الإمداد ووعورة الطرق المؤدية إلى مصادرها.
خلفية مأساوية لمشكلة مزمنة
يقول الشيخ رشيد ناجي: “نحتاج إلى وقفة جادة من الجهات المعنية. الناس هنا يعيشون بالإمكانات البسيطة، يبنون خزانات مائية بأنفسهم، ولكنها تظل مكشوفة وخطرة؛ لأنهم لا يجدون دعمًا أو توجيهًا لحمايتها”.
تأتي هذه الحادثة في وقت تعاني فيه تعز من أزمة مياه خانقة، جعلت آلاف الأسر تضطر إلى حفر خزانات وسدود محلية لجمع مياه الأمطار، لكن هذه الحلول المؤقتة تحوّلت في كثير من الأحيان إلى مصائد موت، خصوصا للأطفال والنساء في القرى الجبلية، حيث غياب الرقابة والإرشاد وضعف الوعي بمخاطر تلك الخزانات المكشوفة.
رحلت إخلاص وورود وميمونة، وبقيت قصتهن شاهدا مؤلما على معاناة الريف اليمني، حيث الماء صار في أحيانٍ كثيرة عنوانا للفقد والموت، رحلن وتركن وراءهن قلوبا مكلومة وأحلام الطفولة الغارقة في خزان مكشوف، تلك الحادثة المؤلمة لا تعيد فقط طرح سؤال الإهمال، بل تذكر بوجع الريف اليمني الذي ما يزال يدفع ثمن غياب أبسط مقوّمات السلامة والخدمات الأساسية.
حوادث الآبار والخزانات في المناطق الريفية في اليمن تكررت بشكل لافت؛ إذ شهدت مديرية “كُعَيدِنَة” بمحافظة حجة عدة حوادث سقوط، وسجلت وفيات، وفق تقرير سابق لمنصة ريف اليمن. وقال “أحمد حاسر (35 عاما)”، المنحدر من قرية المواهبة إن الآبار المكشوفة أصبحت شبحاً يهدد حياة السكان في القرى الريفية بمحافظة حجة”.

وفي محافظة الضالع فقد عبد الرحمن حيدرة (52 عاما) أربع نساء من أسرته غرقا، بينهنّ ابنته، وذلك نتيجة سقوطهن في أحد الحواجز المائية أثناء بحثهن عن المياه، بوادي مقلد بمنطقة الشريس بضواحي مدينة الضالع.
وقال حيدرة لمنصة ريف اليمن في تقرير سابق: “فقدتُ ابنتي وخالتها واثنتين من بنات صهيري بسبب سقوطهن داخل حوض ماء أثناء ذهابهن للاحتطاب. مررن بطريق صخرية محاذية للحوض المائي، وحدثت الكارثة”. وبلغ عدد حالات الوفاة نتيجة الغرق أو السقوط من المنحدرات بمديرية الأزرق بمحافظة الضالع جنوب اليمن، 30 حالة في العامين 2022 و2023، وفق إحصائية لمركز سوث 24 للدراسات.
وخلال السنوات الماضية تعرض الكثير من سكان القرى الريفية للوفاة أثناء جلب المياه من الآبار المكشوفة، التي تفتقر إلى أدنى مقومات السلامة، خصوصاً النساء اللواتي يتحملن مسؤولية البحث عن الماء، وجلبه من مناطق بعيدة من آبار غير آمنة.

