في رحلة شاقة وطويلة، يقطع الطفل “مهند فؤاد”، البالغ من العمر 13 عامًا، يوميًا مسافة ثلاثة كيلومترات ونصف سيرًا على الأقدام، انطلاقًا من قريته “المبهاق” الواقعة في ريف مديرية جبل حبشي بمحافظة تعز، وصولًا إلى الطريق المؤدي إلى مدينة تعز، حاملاً معه نباتات “المشاقر”.
يمتهن مهند بيع المشاقر، وهي نباتات عطرية يمنية شهيرة، كمصدر دخل وحيد لتأمين لقمة العيش لعائلته المكونة من تسعة أفراد، بعد وفاة والده الذي كان يعمل في ذات المهنة، لسنوات عدة.
تنطلق رحلة مهند مع بزوغ الفجر، حيث يشق طريقه عبر الطرقات الريفية الوعرة، عابرًا التلال والوديان، حتى يصل إلى الطريق العام المؤدي إلى المدينة، ومن هناك يصعد على “بابور” نقل الماء إلى المدينة، كونه مجانياً.
مواضيع مقترحة
مشتل النورس في جبل حبشي: قصة إصرار تتوّج بالنجاح
الفُلّ اللحجي.. مصدر رزق ورائحة منعشة
ألحان الحقول.. صوت الأرض الذي يواجه الاندثار
عند وصوله، يتجه إلى شارع الحصب، غربي المدينة، حيث يقضي ساعات حتى الظهيرة في عرض حزم المشاقر على المارة، “المسافة التي أقطعها ذهابًا وإيابًا تقدر بحوالي سبعة كيلومترات”، يقول مهند.
يبدو مهند طفلًا صغيرًا لكنه يحمل على كتفيه ثقل الكبار، يجلس عارضًا بضاعته من المشاقر على المارة والمتجولين، محاولًا كسب قوت يومه وسط صخب المدينة، ومشاق الحياة.
ورثها عن والده
ورث مهند هذه المهنة عن والده الراحل، المعروف بين سكان تعز بـ”بائع المشاقر”، والذي قضى خمسين عامًا من عمره في زراعة وبيع المشاقر. لم تكن هذه المهنة بالنسبة لهم مجرد مصدر رزق، بل موروثًا ثقافيًا واجتماعيًا يعكس هوية المكان وروح الناس.
رغم صغر سنه يواجه مهند صعوبات جمّة في رحلته اليومية أبرزها مشقة جمع المشاقر من القرى المجاورة في رحلة محفوفة بالمخاطر والمخاوف
وبلهجته البسيطة، يقول مهند لمنصة “ريف اليمن”: “أشتغل ببيع المشاقر. أجيبها من القرية وأروح المدينة أبيعها، أبي الله يرحمه كان يشتغل بهذا، وبعدما مات اشتغلت بداله”.
ورغم صغر سنه، يواجه مهند صعوبات جمّة في رحلته اليومية، أبرزها مشقة جمع المشاقر من القرى المجاورة، وخاصة في عصر اليوم الأول بعد العودة من المدينة. يضيف: “أواجه صعوبات كثيرة في جمع المشاقر، خاصةً العصر بعد ما أرجع من المدينة.. أتعب من المشي والبحث”.
ومع كل فجر جديد، يستيقظ مهند في الثالثة صباحًا ليبدأ رحلته اليومية محفوفًا بالمخاطر والمخاوف. “أكثر شيء يخوفني هو الطريق.. لما أطلع الفجر، أخاف كثير، وأشياء كثيرة تدور في بالي”، يقول بقلق.

ومع بداية العام الدراسي، يتوقف مهند مؤقتًا عن عمله، إذ يضطر للالتحاق بالمدرسة، لكنه يستغل عطلة نهاية الأسبوع ليعود إلى عمله في بيع المشاقر. ويوضح: “أيام الدراسة أوقف الشغل وأروح المدرسة، وأيام الجمعة والسبت أبيع في المدينة”، ورغم كل التعب، لا يتوقف مهند عن الحلم. يقول بابتسامة طفولية: “أحلم أكون دكتور بدل ما أكون بائع مشاقر”.
وبين تعب الطريق وهمّ الرزق، يواجه مهند تحديات مادية وضغوط نفسية صعبة: “أنا أشتغل عشان أساعد أسرتي بطلبات البيت”. ورغم محاولاته اليومية، لا تسير الأمور دائمًا كما يأمل، إذ يوضح قائلاً: “بعض الأيام ما أبيع شيء.. تخرب المشاقر عليّ، وبعض الأيام أبيع تمام”.
في الوقت الذي يواصل فيه مهند كفاحه في الطرقات والأسواق، يظل حلمه أن يتحول من بائع للمشاقر إلى طبيب ينقذ الأرواح، ويغير واقعه، ويمنح أسرته حياةً أفضل
ويعتمد سكان الأرياف اليمنية بشكل كبير على الأطفال في أداء الأعمال منذ سن مبكرة، حيث يُكلَّفون بأدوار ومسؤوليات تفوق أعمارهم، وتُثقل كاهلهم، مما يحمل تأثيرات عميقة عليهم، جسديًا ونفسيًا واجتماعيًا، وينعكس سلبًا على حياتهم المستقبلية.
ويتراوح سعر المشقر الواحد ما بين 800 إلى 1900 ريال (0.80 دولار)، أما “حبة الكاذي” فقد يتراوح سعرها بين ألفين إلى 9 آلاف ريال (4 دولار تقريبا). “الربح مش ثابت، أحيانًا أربح 5 آلاف، وأحيانًا 3 آلاف، وأحيانًا بس رأس المال.. وأحيانًا ما أبيع حاجة”، يقول مهند.
إلى جانب مهند، تقف والدته التي تحاول دعمه قدر استطاعتها، تقول لمنصة “ريف اليمن”: “أساعد مهند أرتب له المشاقر.. وأجلس قلقة عليه من الطريق”.
مصدر رزق
وتضيف: “الحمد لله، بعض الأيام يوفر لنا ثلاثة آلاف، وبعض الأيام ما يحصل شيء، بس الحمد لله.. يفرحنا مهند بأي شيء يجيبه بعد وفاة والده”.

في السنوات الأخيرة، تحولت مهنة بيع المشاقر إلى مصدر رزق رئيسي لعشرات الأسر في تعز والمناطق المجاورة، خاصة في ظل الظروف الاقتصادية القاسية.
وبحسب “سام البحيري”، مدير العلاقات في محافظة تعز وأحد منسقي الفعاليات السنوية للمشاقر: “في السنوات الأخيرة، أصبح للمشاقر رواج وإقبال، والكثير من الأسر تعتمد عليها كمصدر دخل”.
وأضاف البحيري: “أصبح هناك أسواق وتجمعات لباعة المشاقر في باب الكبير وسط المدينة، وتأتي المشاقر من مديريات وقرى مثل صبر، وجبل حبشي، والمعافر”، وهذه الأسواق خلقت فرصًا جديدة للكثير من المواطنين، وأسهمت في تخفيف الأعباء الاقتصادية عن الأسر التي وجدت في بيع المشاقر سبيلًا للبقاء.
وفي الوقت الذي أظهر مسح عنقودي متعدد المؤشرات أجراه الجهاز المركزي للإحصاء بالشراكة مع منظمة الأمم المتحدة للطفولة “يونيسف” في أكتوبر/تشرين الأول 2023، أن 29% من أطفال اليمن منخرطون في العمل، يواصل مهند كفاحه في الطرقات والأسواق، يظل حلمه أن يتحول من بائع للمشاقر إلى طبيب ينقذ الأرواح، ويغير واقعه، ويمنح أسرته حياةً أفضل.