رغم الأزمات المتراكمة التي تواجهها الزراعة، جراء الحرب والتغيرات المناخية، لاتزال اليمن أرضا خصبة للاستثمار في قطاعات زراعية متنوعة، ينقصها تخطيط ودعم حكومي لإنعاش قطاع ظل لسنوات العمود الفقري للاقتصاد الوطني.
المهندس “محمد ثابت النشيلي”، مدير عام الإدارة العامة للتسويق والتجارة الزراعية بوزارة الزراعة والري والثروة السمكية، تحدث خلال الجزء الأول من الحوار الموسع الذي أجرته معه “منصة ريف اليمن”، عن واقع الزراعة ومجمل التحديات التي تواجهها، وعن أهمية التحول من الزراعة التقليدية إلى الزراعة الحديثة.
وأوضح النشيلي، أن القطاع الزراعي شهد تحولات جذرية مقارنة بالعقود الماضية، مشيرا إلى أن كثيرا من الأراضي الزراعية أصبحت مهجورة، والبنية التحتية في حالة تدهور مستمر، فضلا عن تراجع الحيازات الزراعية، وهجرة المزارعين، وشح المياه، وتدهور الخدمات الإرشادية، وارتفاع تكاليف الإنتاج.
وفي الجزء الثاني من الحوار تحدث النشيلي عن الفرص الاستثمارية الواعدة في القطاع الزراعي، والتي يمكن أن تسهم في إنعاش الاقتصاد وخفض البطالة، وشدد على أهمية تفعيل المبادرات المحلية وإشراك المجتمعات الريفية في إدارة المشاريع، وإعادة بناء السياسات الزراعية، وتحديث القوانين، وتوفير الحوافز للمستثمرين.

الجزء الأول من الحوار..
- كيف تُقيّم واقع الزراعة في اليمن اليوم مقارنة بالعقود الماضية؟
إذا نظرنا إلى واقع الزراعة اليوم وقارناه بما كانت عليه في العقود الماضية، سنجد فجوة واسعة في كل المستويات، في الماضي، كانت التجمعات السكانية تتركّز في الأودية الزراعية، وكان الاعتماد الرئيسي على الزراعة، لا سيما إنتاج الحبوب، التي مثّلت مصدر الغذاء الأساسي للمواطنين.
كان المزارعون يعملون طوال العام لإعداد الأرض وتجهيزها لمواسم الزراعة، مستخدمين أدوات تقليدية مصنعة محليا، ووسائل حرث تعتمد على الحيوانات؛ كالأبقار والحمير والجمال، وكان الإنتاج وفيرا وذا جودة عالية، وكانت المجتمعات تعتمد على السماد العضوي، وتستفيد من السيول في إصلاح القنوات وبناء المدرجات والجدران الحجرية والجبسية لحماية التربة. أما توزيع المياه فكان يتم وفق أعراف وتقاليد راسخة، وكان العمل الزراعي جماعيا، يشارك فيه الرجال والنساء معًا.
النشيلي: القطاع الزراعي في اليمن تضرر بدرجة كبيرة خلال سنوات الحرب، إذ تقلصت المساحات المزروعة بشكل ملحوظ، وتراجعت إنتاجية الأرض إلى مستويات غير مسبوقة
اليوم للأسف، تغير المشهد بشكل كبير، كثير من الأراضي الزراعية أصبحت مهملة وغير مستغلة وتعرضت مساحات واسعة منها للجرف بفعل السيول، وتعطلت القنوات المائية، ويُهدر جزء كبير من مياه الأمطار دون استغلال، كما تحوّل الاعتماد على وسائل زراعية حديثة تعتمد على المحروقات، مما رفع تكاليف الإنتاج. كذلك أثر استخدام الأسمدة والمبيدات المستوردة سلبا على الحياة الطبيعية والتوازن البيئي، وقضت على الحشرات النافعة، وزادت من الآفات الزراعية وأضعفت خصوبة التربة، وزادت ملوحتها نتيجة غياب السيول والاعتماد على مياه الآبار.
أيضا اتجه المزارعون إلى استخدام بذور هجينة مستوردة لا تتناسب مع مناخ وتربة اليمن، ما أدى إلى تراجع جودة المحاصيل، وفي ظل المنافسة مع المنتجات المستوردة الأرخص سعرا، أصبح الإنتاج المحلي غير مجد اقتصاديا، ما دفع كثيرا من المزارعين إلى هجر الأرض، وأدى إلى اتساع ظاهرة الهجرة من الأرياف نحو المدن أو خارج البلاد، ومعها تقلصت المساحات المزروعة عاما بعد آخر”.
أبرز المحاصيل
- ما هي أبرز المحاصيل التي كانت اليمن تعتمد عليها زراعيًا قبل الحرب؟ وكيف تغيّر المشهد؟
لطالما شكلت الزراعة عمودا فقريا للاقتصاد اليمني، وكانت البلاد تعتمد بشكل رئيسي على إنتاج محاصيل الحبوب وفي مقدمتها القمح، إلى جانب السمسم، البن، القطن، والتبغ، غير أن الحرب وما رافقها من تداعيات اقتصادية تسببت بتقليص زراعة المحاصيل التقليدية بشكل لافت نتيجة ارتفاع تكاليف الإنتاج، وانهيار الخدمات الزراعية، وضعف البنية التحتية، بالإضافة إلى التغير المناخي الذي أثر سلبا على إنتاجية الأرض.
وعلى الرغم من أن أنواع المحاصيل الأساسية لم تتغير بشكل كبير، إلا أن أبرز التغيرات تمثلت في الارتفاع الحاد في تكاليف الزراعة، وقطع الطرقات وسوء حالة المتوفر منها، وتعدد النقاط الأمنية والجبايات التي تعيق حركة النقل والتسويق، كذلك أدى غياب التخطيط الزراعي إلى فائض إنتاجي في بعض المحاصيل الموسمية، ما يؤدي إلى تكدّسها وتلفها في ظل غياب قنوات التسويق والتخزين المناسبة.
- إلى أي مدى تضرر القطاع الزراعي نتيجة الصراع المستمر وانهيار البنية التحتية؟
تضرر القطاع الزراعي في اليمن بدرجة كبيرة خلال سنوات الحرب، فتقلصت المساحات المزروعة بشكل ملحوظ، وتراجعت إنتاجية الأرض إلى مستويات غير مسبوقة، إذ لم يعد الفدان ينتج كما كان في السابق، ومن أبرز العوامل التي ساهمت في هذا التدهور ارتفاع أسعار المدخلات الزراعية، تزايد الهجرة من الريف، وانهيار العملة الوطنية؛ ما قلل من قدرة المزارعين الشرائية.
كما أن البنية التحتية الزراعية تعرضت للإهمال والدمار دون أي صيانة تُذكر، وتفاقم الأمر نتيجة غياب التشريعات الحامية لهذا القطاع، ما أدى انهيار واسع في بنية الزراعة في اليمن.
النشيلي: الاعتماد على وسائل زراعية حديثة تعتمد على المحروقات رفع تكاليف الإنتاج، واستخدام الأسمدة والمبيدات أثر سلبا على الحياة الطبيعية والتوازن البيئي
- هل تتوفر حاليا قنوات تمويل حكومية أو مصرفية للمزارعين؟
التمويل قليل جدا وقد لا يذكر أمام احتياجات المزارعين، أما الدعم الحكومي فقد يكون معدوما، سوى من بعض المنظمات الدولية وهو محدود، أما البنوك المحلية، فتتعامل مع الاستثمار الزراعي بحذر شديد، وتفرض شروطًا صعبة أحيانًا تعجيزية، بالإضافة إلى الفوائد المضافة على القروض؛ ما جعل المزارعين والمستثمرين يحجمون عن الاقتراض، وبعضهم امتنع لأسباب تتعلق بوجود شبهة ربا في القروض المتوفرة.
نزاعات وشح المياه
• هل هناك مشكلات تتعلق بالحيازة الزراعية أو النزاعات القبلية؟
نعم، وبشكل متفاقم، من أهمها صغر الحيازة سنويًا فهي تتقلص عاما بعد آخر نتيجة التقسيم الوراثي، في ظل زيادة عدد السكان، ما يجعل المساحات أصغر وأقل جدوى للاستثمار أو الزراعة، هذه الظاهرة تحد من إدخال التقنيات الحديثة، وتؤدي إلى ضعف الإنتاج.
إضافة إلى ذلك، تشهد بعض المناطق نزاعات قبلية حول ملكية الأراضي، كل طرف يدعي بأنها ملكه أو ضمن حدوده، بالإضافة إلى وجود نزاعات بين الملاك والأفراد؛ مما يؤدي إلى تعطيلها وحرمان السكان من الاستفادة منها.
وفي جنوب اليمن، لا تزال آثار التأميم الزراعي والانتفاضات السابقة قائمة ولم تحل مما أدى إلى إيقاف الزراعة بها، وأيضًا جرف السيول والتغير المناخي أثر على المساحات الزراعية، لذا فالحيازة والمساحة الزراعية في تناقص سنويًا، وهذا بدوره يتبعه تناقص في الإنتاج الزراعي.
- إلى أي حد يعد شح المياه تحديا أمام التوسع الزراعي؟
بكل تأكيد يمثل شح المياه وندرة الموارد الطبيعية أحد أخطر التحديات الراهنة التي تواجه الزراعة، فالمياه في المناطق المرتفعة باتت نادرة جدا، وتشكل مشكلة كبيرة، خاصة في المخزون المائي الأرضي، إذ إن عمق الآبار ازداد في السنوات الأخيرةـ وتجاوز في بعض المناطق حاجز الألف متر، أما في المناطق الساحلية والمتوسطة، فهناك مخزون مائي، لكنه تناقص، وازداد عمق الآبار وجفت بعض الينابيع، وتملحت آبار كثيرة، ما جعل التوسع الزراعي في هذه المناطق مكلفا ومهددا بالفشل.
- كيف تصف حال المزارع اليمني اليوم؟ وما أبرز معاناته اليومية؟
حال المزارع اليمني اليوم يُرثى له، ويكاد يكون في صراع يومي مع أجل البقاء، إما أن يكون أو لا يكون، فهو بين تغيّر المناخ الذي يداهمه بالسيول الجارفة أحيانا، وبالجفاف وشدة الحرارة أحيانا أخرى، وبين السوق المنفلت الذي يتحكم به عدد قليل من التجار، ويستغلون المزارع بأسعار زهيدة، بينما يبيعون بفارق كبير، في حين يقف المزارع عاجزًا أمام ارتفاع تكاليف المحروقات والمدخلات الزراعية، وغياب الدعم الحكومي أو المنظمات.
ومن أبرز معاناة المزارعين اليومية، الفوضى في الإنتاج، إذ لا يوجد تخطيط زراعي أو توجيه مناسب؛ حيث توقفت نزلات المرشدين والإعلام الارشادي، فيلجأ المزارعون إلى زراعة محاصيل كالطماطم والبصل بمساحات واسعة، لتتكدس لاحقا في الأسواق دون وجود قنوات تسويقية أو مصانع أو مستودعات للحفظ؛ ما يؤدي إلى تلف المحصول وخسارته.
النشيلي: حال المزارع يُرثى له ويكاد يكون في صراع يومي مع أجل البقاء، فهو بين تغيّر المناخ الذي يداهمه بالسيول الجارفة أحيانا، وبالجفاف وشدة الحرارة أحيانا أخرى
غياب الدعم والطرقات الوعرة، وغلاء آليات خدمة الأرض، وانعدام الجمعيات الزراعية الفعالة فمعظمها خاملة أو وهمية، كلها تضاف إلى سلسلة طويلة من الأعباء التي تجعل من المزارع الحلقة الأضعف في سلسلة الإنتاج، رغم أنه الطرف الأول فيها.
دور المنظمات
- ما الدور الذي تلعبه المنظمات الدولية لدعم الزراعة؟ وهل يرقى لمستوى التحديات؟
الدور الذي تلعبه المنظمات الدولية في دعم الزراعة لا يرقى إلى مستوى التحديات، وأرى أنها سبب رئيسي في تراجع الإنتاج الزراعي وعزوف عدد كبير من السكان عن الزراعة لعدة أسباب، منها أنه لا يوجد فيه استدامة، رغم تأكيد وزير الزراعة بضرورة الانتقال إلى المشاريع المستدامة، كما أن غالبية المنظمات تركز على المشاريع سهلة التنفيذ، مثل التدريب، وتوزيع مواد وورش، ونقد مقابل عمل، وتنتهي بانتهاء الدعم، ولا توجد جهات حكومية للمتابعة والتقييم.
أيضا النسبة الأكبر من الدعم تستهلك في العمليات الإدارية وسلسلة الوسطاء، لتصل إلى المزارع بأثر محدود، في حين أن الدعم يتمركز في محافظات قريبة من عدن لسهولة الوصول، رغم أن هناك محافظات أخرى بحاجة للدعم، لكنها تُهمل تحت ذريعة الوضع الأمني.
وللإنصاف، توجد بعض المشاريع المستدامة، مثل سد باتيس، ومراكز الجراد، ومراكز إعداد الصادرات في بعض المحافظات، مشاريع في الري، سدود تحويلية، وقنوات وبيوت محمية، ومشاتل ومختبرات الفحص، والمحاجر البيطرية، وفي المجال السمكي ميناء الاصطياد وغيرها من المشاريع، إلا أننا نطمح إلى مشاريع مستقبلية أكثر استدامة، ويستفيد منها أكبر عدد من المستهدفين.
الزراعة الحديثة
- ما مدى وعي المزارعين بأهمية التحول من الزراعة التقليدية إلى الزراعة الحديثة؟
بفضل الانفتاح الإعلامي وانتشار الإنترنت وتطبيقات التواصل الاجتماعي وبرامج المنظمات الدولية، بات كثير من المزارعين يتابعون، وأصبحوا أكثر وعيا بأهمية تقنيات الزراعة الحديثة، وقد بدأ كثير منهم بإدخال بعض هذه التقنيات، واستخدام الطاقة المتجددة، واعتماد البذور المحسنة والبيوت المحمية.
لكن رغم هذا التحول، لا تزال الممارسات عشوائية في كثير من الأحيان، على سبيل المثال، أدى الاستخدام غير المنضبط للمبيدات والأسمدة إلى تلوث المنتجات الزراعية، والضرر على الصحة العامة، بسبب الأثر المتبقي للمبيدات في المنتجات الزراعية، إضافة إلى تدهور خصائص التربة، وتملُّحها، وموت الحشرات النافعة بسبب الأسمدة الكيماوية، كما أن الاستخدام غير الرشيد للطاقة الشمسية ساهم في استنزاف المخزون المائي الجوفي، وهو ما ينذر بكوارث بيئية مستقبلية.
- ماذا عن برامج التدريب والإرشاد الزراعي في الميدان؟
للأسف، لا توجد برامج إرشادية فعّالة على الأرض، نحن حقل تجارب بالنسبة للبرامج الإرشادية، كل الأنظمة والبرامج الإرشادية مستوردة ولا يوجد برنامج نابع من واقعنا ينسجم مع خصوصية المزارع اليمني أو تحدياته اليومية.
فقد تنقّل الإرشاد الزراعي في اليمن بين أنظمة متعددة، من نظام المحطات الزراعية، إلى التدريب والزيارات، ثم المدارس الحقلية الذي يتم حاليا، وأعتبره فاشلاً لعدم تناسبه مع ظروف وواقع اليمن.
إنعاش الزراعة
- هل هناك مبادرات وطنية لإعادة إنعاش الزراعة وتمويل المشاريع؟
رغم الظروف الصعبة، هناك جهود حقيقية تبذل من قبل قيادة وزارة الزراعة، وعلى رأسها الوزير “سالم عبدالله السقطري”، الذي يقوم بدور كبير في إنعاش الزراعة، ويعمل بجد، ويتابع مع المنظمات الدولية والدول لدعم القطاع الزراعي والسمكي، ويشدد باستمرار على أهمية الاستدامة، وأثر المشاريع في تحسين حياة المزارعين.
لكن في ظل أوضاع الحرب لا توجد مبادرات فعالة لتمويل المشاريع الصغيرة والمتوسطة لإنعاش الزراعة أو تمويل المشاريع الصغيرة والمتوسطة، وإن وجدت من بعض البنوك التمويلية فهي قليلة جدًا ولا تُذكر؛ ما يجعل الزراعة في اليمن تعتمد على اجتهادات فردية، وظروف استثنائية.
تنويه:هناك جزء ثان للحوار سينشر لاحقا، تحدث فيه النشيلي عن الفرص الاستثمارية الواعدة في القطاع الزراعي، والتي يمكن أن تسهم في إنعاش الاقتصاد وخفض البطالة، ودعا إلى بناء السياسات الزراعية وتحديث القوانين، وتوفير الحوافز للمستثمرين