لطالما كانت الأعشاب الطبيعية جزءًا أساسيًا من الممارسات التقليدية العلاجية في المجتمعات الريفية؛ حيث تُنقل المعرفة بها عبر الأجيال دون تقييم علمي دقيق، وعلى الرغم من فوائد بعض الأعشاب، إلا أن استخدامها العشوائي قد يؤدي إلى عواقب وخيمة، كما حدث مع المواطنة “كاتبة أحمد”، التي كادت تفقد حياتها بسبب علاج تقليدي خاطئ.
تعيش “كَاتِبة” في منطقة حجرمين بجبل حبشي غربي تعز (جنوب غربي اليمن)، وتروي تجربتها لمنصة ريف اليمن قائلة: “استخدمت العُشر لعلاج البُسور (مرض جلدي)، ولم أكن أتصور أنني قد لا أنجو” ولم تكن تدرك أن هذا النبات قد يسبب التهابات حادة، مما كاد يعرّض حياتها للخطر.
تشير “كاتبة” أيضاً إلى أن بعض الأعشاب، مثل “الشرب”، التي تنمو في المنطقة وتُستخدم لتخسيس الوزن، تسببت في مشاكل صحية خطيرة للأطفال، حيث أصيبوا بإسهال واستفراغ حادين، ولم يتمكن الأهل من إيقاف الأعراض إلا بعد نقلهم إلى المركز الصحي، كما أن نبتة أخرى تُعرف بـ “التبشع” أدت إلى وفاة إحدى الإبل.
الأعشاب بين المخاطر والفوائد
أما “منى سعيد”، البالغة من العمر خمسين عامًا من ريف وادي الرُسّان بالحجرية، فتروي لمنصة ريف اليمن، تجربتها مع شجرة شوكية تُنتج مادة بيضاء تُعرف باسم “القُصُص”.
مواضيع مقترحة
- التداوي بالأعشاب.. ملجأ سكان الريف في اليمن
- شَربة السنا: تقليد صحي وموروث شعبي
- الكُرْكُم.. مسحوق نساء الريف يقاوم مستحضرات التجميل
تقول منى: “كنا نعتقد أن هذا السائل مفيد، لكن عندما وقعت قطرة منه على عيني، كدت أفقد بصري”. لم تكن تدرك أنها مادة سامة، وهو ما تعلّمته بعد أن فقد والدها بصره بسبب علاج عشبي خاطئ عندما كان طفلًا.
وتضيف سعيد لمنصة ريف اليمن قائلة: “عندما كان والدي في الثانية عشرة من عمره، أصيب بحكة مفاجئة في عينيه، ونصح أهالي القرية جدتي باستخدام شجرة (الخصال والإثاب) ثم توالت النصائح للعلاج بالأعشاب حتى فقد بصره تمامًا”.
منى ليست الوحيدة التي فقد والدها بصره بسبب التداوي بالأعشاب كممارسة ثقافية موروثة، ففي مطلع يناير/ كانون أول الماضي، توفي أربعة أشخاص من أسرة واحدة في منطقة الحيمة بريف محافظة تعز، بسبب تناولهما شجرة عشبية سامة، تعرف محلياً باسم بـ”القبب” وهي شبيهة بشجرة “الصبّار” المُرَّة التي تستخدم كعلاج شعبي.
والقبب، نوع من الأشجار السامة، ويتجاوز طولها ما بين مترين إلى ثلاثة أمتار في بعض المرتفعات الجبلية، في حين أن شجرة “الصبّا” لا يتجاوز ارتفاعها عن الأرض متر تقريباً، ويُعتقد أن نبات الصبار، يُتناول كعلاج لكثير من الأمراض وكوقاية في شهر رجب بناءً على هذه العادة، تناول الضحايا نبتة “القبقب”، مما أدى إلى وفاتهم جميعًا، بينما أصيب البعض بأعراض صحية خطيرة.
يُعتبر التداوي بالأعشاب من أهم الوسائل التي اعتمدت عليها الأسرة اليمنية للعلاج خاصة في الأرياف، كونها أقل كلفة وأكثر توافرًا
بديل للتداوي أقل كُلفة
الدكتور “محمود البكاري”، أستاذ علم الاجتماع بجامعة تعز قال إن “التداوي بالأعشاب يُعتبر من أهم الوسائل التي اعتمدت عليها الأسرة اليمنية لمعالجة بعض الأمراض بناءً على الخبرة والتجربة، خاصة في الأرياف، حيث يُنظر إليها كبديل أقل كلفة وأكثر توافرًا، وبالتالي تتمسك الأسرة اليمنية في الريف بماضيها بكافة مناحي الحياة لما لذلك من خصوصية اجتماعية وثقافية واقتصادية”.
تعتبر الأعشاب جزءًا من التراث الثقافي في المجتمعات الريفية، حيث يُعتقد أن لها فوائد صحية عديدة، ومع تزايد الضغوط الاقتصادية، ونقص الخدمات الصحية؛ يلجأ الكثيرون إلى استخدام الأعشاب كبديل للعلاج الطبي، لكن يفتقر العديد من الناس إلى المعرفة اللازمة لتفادي المخاطر المرتبطة بهذه الممارسة.
أما الدكتورة “خلود المقطري”، وهي طبيبة متنقلة في المراكز الصحية الريفية بمنطقة التربة جنوبي تعز، فتقول: “للأسف يعتقد البعض أن كل الأعشاب آمنة ولا تمثل أي خطورة، لكن الحقيقة هناك أعشاب لها آثار ضارة على الصحة وحياة الإنسان، وتحتوي على مواد سامة أو مواد مهيجة للجسم، ويجب أن يكون استخدامها تحت إشراف مختصين”.
وتضيف: “تعاني العديد من المناطق الريفية من نقص الخدمات الصحية، حيث تكون المرافق الطبية بعيدة أو غير متاحة، ما يدفع الناس إلى اللجوء للعلاج بالأعشاب، ومن الضروري تعزيز التوعية حول كيفية استخدام هذه الأعشاب لضمان سلامة المجتمع”.
يؤكد البروفيسور “جابر القحطاني”، أستاذ علم العقاقير أن “معظم النباتات والأعشاب الطبية تحتوي على درجات متفاوتة من السُمّية، وبعضها قد يكون قاتلًا إذا تم استخدامه بطريقة خاطئة ودون دراية وإلمام بكيفية استخدامها بالتحديد”.
ويشير القحطاني في كتابه “السموم داء ودواء” إلى أن هناك أعشابًا قد تؤدي إلى الوفاة إذا لم تُستخدم بحذر، وهو ما وثقه أيضًا في كتابه “أعشاب الموت”؛ حيث رصد حالة وفاة لسيدة بسبب تناولها عشبة سامة.
جابر القحطاني، أستاذ علم العقاقير:
يجب عدم تناول أي وصفة عشبية بناءً على تجربة شخصية أو نصيحة من غير المختصين، لأن ما يصلح لشخص قد لا يكون مناسبًا لآخر
تحذير من الوصفات العشبية الجاهزة
ومحذرا من اللجوء إلى وصفات عشبية غير موثوقة، يقول القحطاني: “ما يصلح لشخص قد لا يكون مناسبًا لآخر، لذا يجب عدم تناول أي وصفة عشبية بناءً على تجربة شخصية أو نصيحة من غير المختصين”.
ويرى الدكتور البكاري أن للتعليم دورًا أساسيًا في تنمية الوعي لدى الجيل الجديد من الشباب الذي يحاول أن يقيّم هذه الممارسات، ويحتفظ بما هو إيجابي، ويتخلص مما هو سلبي بصورة تدريجية.
ويلفت إلى أن الجيل القديم يظل متمسكًا بعاداته وتقاليده، ويصعب إقناعه بالتخلي عنها، لذا نحتاج إلى حملات توعية بمختلف الوسائل المتاحة، لضمان تحول التداوي بالأعشاب إلى ممارسة أكثر أمانًا، خاصة مع انتشار ما يُعرف بالطب البديل الذي يجد رواجًا لدى الكثير، حتى على مستوى الحضر، ولا يزال يعمل جنبًا إلى جنب مع مؤسسات الطب الحديث.
أما البروفيسور “عبد الناصر الجفري”، أستاذ علوم تصنيف النبات في اليمن، فقال إن هناك أنواعًا من الصبار السام تُعرف باسم “القَبْقَب”، وهي واحدة من النباتات التي تنمو في المناطق الجبلية باليمن، لكنها قد تسبب تسممًا قاتلًا عند تناولها.
ويضيف أن هناك نباتات أخرى تُستخدم للزينة لكنها سامة، مشيرًا إلى غياب الدراسات الشاملة حول النباتات السامة في اليمن، حيث تم توثيق بعض الحالات بشكل فردي دون وجود قاعدة بيانات واضحة.
وحتى الآن، لا توجد دراسات شاملة حول النباتات السامة في اليمن، لكن بعض الباحثين قاموا بعمل حصر فردي لأنواع هذه النباتات، وتختلف خطورتها من نوع لآخر، ومن الخطأ القول إن الأعشاب التي لا تفيد لا تضر، فهناك بالفعل نباتات سامة.